علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

مفاهيم خاطئة.. وطوابير غائبة

إحدى المشكلات التي واجهت ولا تزال المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، والتي أدت إلى ارتباك حركة هذه المجتمعات وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ثم الفورة التي حدثت في عام 2011 في عدد من الدول العربية وما زلنا نعيش في تداعياتها، هي القناعات والمفاهيم الخاطئة التي ترسخت، وساهمت الحكومات نفسها في نشرها، ثم اكتشفت أنها كمن يلف حبل المشنقة بنفسه حول عنقه.
وهذا بالتحديد ينطبق على القضايا الاقتصادية، باعتبارها قضايا معقدة تحتاج إلى فهم، وكذلك في ضوء أنها تمس الناس في حياتهم اليومية، وأغلب الحكومات تتصرف كالنعامة في مثل هذه القضايا مفضلة الشعبوية، وتأجيل الحلول الجذرية أو تركها لأجيال مقبلة لتحلها، وهذا واضح في قضايا دعم السلع والوقود التي تتفاقم مع الزيادة السكانية، وفي النهاية فإن هناك من يجب أن يدفع الثمن، وتصبح المسألة كأن جيلا يقترض من جيل قادم.
أكثر قضايا المفاهيم الخاطئة هي العملة، فكلما كانت العملة قوية، كان ذلك دليلا على القوة السياسية والاقتصادية، وهذا إن كان صحيحا في بعض الحالات فإنه غير صحيح في حالات كثيرة معاصرة، وإلا فلماذا حروب العملات التي تشتعل كل فترة ما بين الولايات المتحدة والصين، كلما خفضت الأخيرة قيمة عملتها لتشجيع صادراتها وجعلها أكثر تنافسية في الأسواق الخارجية. فالظروف هي التي يجب أن تحدد السياسة النقدية والعمل على تقوية العملة أو السماح بهبوطها، وهو ما يبدو أن السلطات التي تحدد السياسات الاقتصادية والنقدية في مصر لجأت إليه أخيرا بعد عقود من التردد وعدم قول الحقائق للناس.
وهو اتجاه إيجابي إلى الأمام، لأنه إذا كنا نريد تفادي تكرار فورات أو ثورات جديدة، يجب أن نكون أمناء مع أنفسنا والتعامل بشكل حقيقي مع أسباب التعثر التي أدت إلى سخط الناس. وفي حالتي مصر وتونس بالتحديد، فإنه يجب الأخذ في الاعتبار أن جزءا كبيرا من أسباب ما حدث، هو الشعور بالظلم الاجتماعي والاقتصادي، في حين أن البلدين كانا يحققان معدلات نمو عالية تصل إلى 7 في المائة سنويا قبلها، لكن يبدو أن السبب هو أن الغالبية كانت تسمع عن نسب النمو المرتفعة، ولا تشعر بتأثيرها إلا من خلال ارتفاع تكلفة المعيشة والتضخم، لذلك جاء الانفجار بينما من يتابعون الأوضاع على الورق والشاشات في البورصات مندهشون.
نفس الوضع ينطبق تقريبا على الساحة السياسية، حيث كانت الحياة السياسية والقوى المشاركة فيها أشبه بمسرحية كبيرة، لكن لا أحد ينكر أن هامش الحريات ومساحة النقد اتسع على مدار 4 عقود، فما كان خطرا في الستينات والسبعينات، أصبح عاديا في آخر عشر سنوات، ومع ذلك حدث الانفجار.
أبلغ مثال على ذلك الانتخابات التي كانت المشاركة الحقيقية فيها محدودة، لأن الناس كانت تشعر أن إرادتها لن تحترم، ثم حدث انفجار 2011 ثم 30 يونيو (حزيران) في مصر واستحقاقات خريطة الطريق، الدستور والانتخابات الرئاسية، ثم البرلمانية الآن، التي يتحدث الجميع عن غياب الطوابير فيها، في إشارة إلى أن نسب المشاركة ليست كبيرة.
وهي مسألة يجب أن تؤخذ بجدية لمعالجتها من دون ارتباك، أو التهويل الذي تقوم به القوى التي لا تريد النجاح للمسيرة الحالية، فقد تكون هناك الكثير من العوامل التي أربكت الناخب بينها نظام القائمة والفردي، أو الملل من الذهاب إلى صناديق الاقتراع تقريبا 7 مرات خلال فترة زمنية قصيرة، وعدم المعرفة بكثير من المرشحين، أو الاعتماد فقط على رأس النظام وهي عادة مصرية قديمة، لكن أيا تكن الأسباب فإن إثراء الحياة السياسية يستدعي أن تكون هناك دراسة جدية لأسباب غياب الطوابير هذه المرة.