مضى نحو 40 عاما على نشر كتاب «تربية اليسر وتخلف التنمية» للدكتور عبد العزيز الجلال. وهو إحدى الدراسات المبكرة التي عالجت بشكل صريح إشكاليات التنمية الاقتصادية في مجتمع الخليج.
صدر الكتاب في إطار النقاشات التي أدارها «منتدى التنمية»، وهو تجمع سنوي للمفكرين المهتمين بالشأن العام في المنطقة، تأسس في ديسمبر (كانون الأول) 1979، وتركز نقاشاته على الأسئلة التي تثيرها سياسات التنمية، وما يتحقق في إطارها. لقد مضى على نشر الكتاب أربعة عقود. وبهذا فإنَّ البيانات التي اعتمدها في دراسته لواقع القطاع التعليمي، باتت قديمة. ولا شك أنَّ الحال قد تغير كثيراً منذ ذلك الوقت. لكن الكثير من المستخلصات التي توصل إليها، وتبناها المنتدى أيضاً، ما تزال صحيحة وهي تستحق المزيد من الاهتمام.
لقد قرأت الكتاب منذ وقت طويل، لكني أشعر بالأنس حين أعود إليه بين حين وآخر. وللمناسبة فهناك عدد قليل من الكتاب الذين يرتاح الإنسان إذ يعود إليهم حيناً بعد حين، ولا يمل من تكرار قراءتهم. وأقول - من باب الاستطراد - إنَّ العلامة د. محمد شحرور وأستاذنا إبراهيم البليهي من هذا النوع، بغض النظر عن مقدار ما تتفق معه أو تختلف. المهم - في حقيقة الأمر - هو تلك الومضات التي تنقدح في الذهن، حين تقرأ هذين الرجلين أو حين تقرأ كتاب د. عبد العزيز الجلال.
إني أعود إلى هذا الكتاب في إطار دراسة، قادتني أيضاً إلى عمل شبيه له من نواح كثيرة، لكنه يفوقه من حيث سعة الموضوع وعدد الكتاب ومستوى المقاربة، أعني به كتاب «التحدي أمام الجنوب: تقرير لجنة الجنوب» الذي صدرت ترجمته العربية في 1990. وكما يتضح من اسمه، فالكتاب الذي شارك فيه 25 كاتباً يمثل الرؤية العامة لفكرة الجنوب، وهو عنوان أريد له أن يكون يصف الاقتصاد السياسي لمجموعة البلدان النامية، في مقابل «الشمال» الذي يضم الدول الصناعية.
تأسست لجنة الجنوب بجهود مشتركة، قاد مرحلتها الأخيرة مهاتير محمد، رئيس حكومة ماليزيا السابق، واستهدفت وضع رؤية تنموية مشتركة للأولويات التنموية لبلدان الجنوب، إضافة إلى وضع أرضية للتعاون فيما بينها. ونعلم أن هذه اللجنة كانت رد فعل على «لجنة برانت» التي أقيمت في 1980 من أجل وضع منظور مشترك لاقتصاديات الدول الصناعية، وترأسها مستشار ألمانيا الغربية يومذاك ويلي برانت.
قدم تقرير «لجنة الجنوب» تصوراً موسعاً حول مفهوم التنمية الشاملة، الواجب تبنيه من قبل دول العالم الثالث، وأولوياته وطرق تنفيذه ومتابعته وتجديده. والذي يهمنا في هذا الخصوص هو المساحة الواسعة نسبيا، التي خصصها لشرح مشكلات التعليم وتطوير المعرفة والتقنية. وأذكر في هذا الصدد نقطة مركزية مشتركة بين مقاربة د. الجلال وتقرير لجنة الجنوب، أعني تركيزهما على مجتمع المعرفة، أي البيئة الاجتماعية الحاضنة للتعليم والاقتصاد. ويؤكد الاثنان على الحاجة لنشر المعرفة والعلم في الوسط الاجتماعي العام، حتى يتحدث الناس جميعا بلغة العلم، ويستذكروا قواعد العلم وأسماء العلماء. إذا حصل هذا فإنَّ عامة الناس سيفكرون في أمورهم الحياتية العادية، بطريقة منطقية أو علمية.
ليس المقصود أن يتحدث الناس باللغة الفصحى، ولا المقصود أن يناقشوا نظريات الفيزياء على العشاء أو في المقهى، بل أن يتفكروا فيما يسمعون أو يقرأون، فإن وصلهم خبر عن مسألة علمية، فهموه وتفاعلوا معه، وإن وصلهم خبر أو فكرة غير معقولة رفضوه وأنكروه.
في هذه الحالة سيكون المحيط الاجتماعي مساعداً ودافعاً للباحث والمبدع، كما يكون البحر الصافي بالنسبة للسمك. بديهي أنه لا يمكن التحول إلى مجتمع صناعي، ما دامت الخرافة هي الحاكمة على الثقافة العامة وكان منطق العلم هو الغريب. هذا - ببساطة - الغرض الجوهري للتعليم العام الذي دعا إليه الدكتور الجلال ولجنة الجنوب، قبل ثلاثة عقود من الزمن، وأظننا لا نزال بحاجة إلى استذكاره.