عندما زار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الجانب المصري من معبر رفح، وألقى كلمته هناك، فهم الاستراتيجيون والمتتبعون للعلاقات الدولية أكثر من أي وقت مضى هشاشة المنطقة، وهشاشة الوضع الدولي، ومحدودية المنظمات الدولية، وقلة الأوراق التي يمكن أن تستعمل لإيقاف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؛ فالأمين العام للأمم المتحدة يعرف محدودية مساعيه ومساعي الأمم المتحدة؛ لذلك اكتفى بالمطالبة بإدخال المساعدات بأسرع وقت ممكن إلى القطاع، وتمكين شاحنات المساعدات من دخول غزة.
يفهم الجالس على كرسي الأمانة العامة للأمم المتحدة أن المنطقة تغلي، وأن حروبها لا تنتهي، وفيها أزمات صعبة ومتتالية وميليشيات متعددة وجيوش قلقة ومسيّرات خارقة للحدود. وهذا الواقع أدخل العديد من الكيانات في أطوار مجهولة الملامح بسبب دورات الصعود والهبوط في ديناميتها، وتشخيصها الدقيق يوحي بأن أغصان شجرة الانفراج لم تورق بعد، إن لم نقل إنها لم تظهر بعد. فتشخيص عوامل الأزمة والانفراج في المنطقة في أبعادها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإقليمية والدولية، تجعلنا نقر بأن الأزمة عميقة، وتؤصل لأزمات لا تخمد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك قد تغيرت؛ إذ يخطئ الكثيرون عندما ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم وإلى صراعاته الكلاسيكية، ويقرون بأنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي، في حين أن العالم أضحى متحركاً، ومحدداته متخطية لحدود الدولة – السيادة، وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكيات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية - اجتماعية.
ويفهم غوتيريش أيضاً أن هناك عطباً داخل المنظمة الأممية، وإصلاحها من المواضيع الصعبة بل المستحيلة؛ فالدول الخمس الكبرى تتوفر على حق النقض «الفيتو» الذي يمكن أن تستعمله متى تشاء، وحسب مفاهيمها الاستراتيجية الخاصة بها، بل في بعض الأحيان حسب مزاجها الدبلوماسي الخاص. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية حصلت تطورات جيوستراتيجية متعددة يمكن أن تكتب في الآلاف من صفحات كتب العلاقات الدولية، من دون أن يصاحب ذلك أي إصلاح ولا مواكبة من الأمم المتحدة، ولا تعديل للميثاق المؤسس.
السيد غوتيريش يعلم أن إصلاح الأمم المتحدة شيء ضروري، ولكن يبقى رهيناً برغبة الدول الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، فهذه الدول مجتمعة ستظل الركائز الأساسية لأي رغبة في الإصلاح.
كل الأمناء العامين للأمم المتحدة يعرفون عملهم والخطوط الحمراء التي رسمتها القوى الدولية لعمل الأمين العام وللمنظمة بأسرها... الإصلاح صعب وما يجري في فلسطين بل في العالم من أحداث درامية يكون علاجها بين القوى العظمى خارج الأمم المتحدة، وليس داخل هذه المنظمة، هذه هي الحقيقة التي يصعب على طلبتنا الجامعيين في مجال العلاقات الدولية فهمها؛ فأنت عندما تدرّس لهم أبجديات القانون الدولي الإنساني الذي يقنن لك القواعد التي تحد من آثار النزاعات المسلحة ويحمي الأشخاص الذين لا يشاركون أو الذين يكفون عن المشاركة في الأعمال العدائية، وعندما تدرّس لهم معاهدات القانون الدولي الإنساني الذي يرتكز على عدد من المعاهدات، لا سيما اتفاقيات جنيف لسنة 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، فضلاً عن سلسلة من الاتفاقيات والبروتوكولات الأخرى التي تغطي جوانب دقيقة، فإنهم يصابون بالدهشة وسوء الفهم عندما تأخذهم الوقائع والتصريحات وازدواجية المعايير في العلاقات الدولية إلى بيئة أخرى غير تلك التي ينظر لها منذ عقود القانون الدولي الإنساني.
والمبتدئ كما المتضطلع في مجال العلاقات الدولية ستزداد قناعته الفهمية عندما يقرأ هذه الفقرة في كتاب أحد رؤساء الولايات المتحدة الأميركية السابقين جيمي كارتر (فلسطين: السلم لا الميز العنصري): «هناك عاملان أساسيان ساهما في طول أمد العنف والانتكاسات الإقليمية: موافقة البيت الأبيض والسنوات الأخيرة على الأفعال غير القانونية لإسرائيل، مدعمة من طرف الكونغريس الأميركي، ولا مبالاة القادة الدوليين. هناك في إسرائيل حوارات اجتماعية وإعلامية لا متناهية عن السياسة التي يجب اتباعها في الضفة الغربية، ولكن بسبب قوة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية، نادراً ما تنتقد السياسات الإسرائيلية، كما أن الأميركيين في غالبيتهم يجهلون الأوضاع في المناطق المحتلة. وفي سنة 2003، استغرب الأميركيون وأغضبهم استطلاع رأي قامت به جريدة محترمة (International Herarld Tribue)، حيث استجوبت ما يزيد على 7500 مواطن من الدول الأوروبية، واعتبروا أن «إسرائيل تشكل بحق تهديداً للسلم والأمن العالميين أكثر من كوريا الشمالية، وإيران أو أفغانستان»، ولتحقيق السلم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، دعا الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية في نهاية كتابه إلى احترام الشرعية الدولية وتطبيق قرارات مجلس الأمن، يعني القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973)، وبمعنى آخر الرجوع إلى حدود 1967. وبعد دراسته للقضية الفلسطينية في كل الكتاب، ندد الرئيس جيمي كارتر بمنطق الميز العنصري المطبق الذي يمنع كل تطور اقتصادي للفلسطينيين، حيث كدر صفو حياتهم، وسلب أرضهم، ودمر صروح حضارتهم وتطورهم، وعرقل مسيرة تنميتهم.
في مقالة أخيرة له في هذه الجريدة الغراء، كتب السيد عمرو موسى عن «الابتسامة الغربية التي لم تعد تغري أحداً، وأن المجتمع الغربي غير مستعد لتطوير مفاهيمه التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لضياع مصداقية النظام المتعدد الأطراف، خصوصاً فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين. وأعني بذلك سياسة ازدواج المعايير، فما يدافع عنه في الحالة الأوكرانية، يدافع عن عكسه في الحالة الإسرائيلية - الفلسطينية»، وهذا الكلام شهدناه في مداخلات ممثلي الدول الغربية في مؤتمر القاهرة، والتي بالمناسبة أثارت استياء كبيراً حتى من بعض الأطياف السياسية في بلدانهم؛ وهؤلاء بدأوا ينظرون بتخوف إلى المظاهرات العارمة في عواصم بلدانهم التي لم يستطيعوا توقيفها، بما في ذلك فرنسا التي جعلت الرئيس الفرنسي يسافر إلى تل أبيب ملطفاً زيارته برحلة إلى رام الله.