الأدب والسياسة وعلم الجمال في سياقات الهجرة القسرية

المؤلفة تلقي الضوء على الأدب العربي في أجزاء من الكرة الأرضية

TT

الأدب والسياسة وعلم الجمال في سياقات الهجرة القسرية

المنفى، طوعاً أو قسراً، ظاهرة ليست بالنادرة في حياة الأدباء منذ القدم. ونحن نتذكر الشاعر اللاتيني أوفيد الذي نفاه الإمبراطور أوغسطس قيصر، لأسباب غير واضحة، إلى توميس على البحر الأسود في عام 8م، والشاعر الإيطالي دانتي الذي نُفي من مسقط رأسه في فلورنسا، فعاش هائماً جوالاً في شمال إيطاليا، وحط الرحال زمناً في مدينة رافيينا، والشاعر الفرنسي رنبو الذي هجر بلدته شارلفيل (وهجر معها الشعر)، ليشتغل بتهريب السلاح وتجارة الرقيق في عدن والحبشة، وفي القرن العشرين نفى الروائي جيمز جويس نفسه من وطنه آيرلندا لكي يعيش متنقلاً بين باريس وتريستا وزيوريخ (لجويس مسرحية عنوانها «منافي»).

وعاش د.هـ. لورانس في حراك دائم بين إيطاليا وولاية نيو مكسيكو في الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك وأستراليا. وابتداءً من عشرينات القرن الماضي وما بعدها، آثر عدد من الكتاب الأميركيين: إرنست همنغواي، وسكوت فتزجرالد، وإزرا باوند، وجرترود ستاين، وهنري ميلر، العيش في باريس عاصمة النور، وحين علا نجم هتلر وبدأت النازية تحكم قبضتها في ألمانيا فر منها توماس مان وآخرون. وكذلك الشأن مع دكتاتورية ستالين التي أجبرت عددًا من الكتاب الروس، مثل إيفان بونين، على العيش خارج أوطانهم، حيث استقر بونين في فرنسا. وراح الكاتب المسرحي برخت يبدل بلداً ببلد، كما يبدل المرء حذاءً بحذاء، واضطر الشاعر الأميركي إزرا باوند، بعد خروجه من السجن -لأنه ناصر فاشية موسوليني- إلى أن يقضي بقية حياته في رابالو بإيطاليا.

وأسباب المنفى عديدة، منها السياسي، ومنها الاجتماعي والأخلاقي، ومنها الاقتصادي، كما أن آثارها في الكاتب المنفي تتراوح بين الحنين إلى الوطن، والرغبة في مد الجذور في وطن آخر، والحلم بمستقبل لا يضطر فيه الكاتب إلى هجر أرض ضمت ذكرياته، وعلقت بها تمائمه، على حد تعبير الشاعر العربي القديم.

ومن أقسى أنواع المنفى أن يكون المرء منفياً داخل وطنه، معزولاً بأفكاره وتوجهاته ومعتقداته عن الغالبية العظمى من حوله. هكذا كتب المعري: «أولو الفضل في أهلهم غرباء، يشذ عنهم وينأى الأقرباء»، وقال المثل: «زامر الحي لا يطرب». وعلى صفحات مجلة «أدب» البيروتية (ربيع 1963) قدم أدونيس مختارات من كتاب «الصداقة والصديق» لأبي حيان التوحيدي، تحت عنوان «غربة أطيب من الوطن»، وفي هذا الكتاب يقول التوحيدي: «أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع ما ترى، متوقعاً لما لا بد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص».

وتجربة الأديب العربي المعاصر الذي يعيش في أوروبا -باختياره أو مضطراً- موضوع كتاب عنوانه «أدب المنفى العربي في أوروبا» Arabic Exile Literature in Europe، من تأليف جوهانا سلمان، Johanna Selman، الأستاذة المساعدة في قسم لغات الشرق الأدنى وجنوب آسيا بجامعة ولاية أوهايو الأميركية، وقد صدر الكتاب خلال العام الماضي (2022) عن مطبعة جامعة إدنبره في أسكوتلندا.

تعرّف المؤلفة «أدب المنفى العربي» بأنه ذلك الأدب الذي كتبه -منذ تسعينات القرن الماضي- أدباء لاجؤون وطالبو لجوء، ومهاجرون غير نظاميين، وهم يمثلون جزءاً من اللقاء -وأحياناً الصدام- الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب، والالتزام السياسي، والفهم الحداثي لظاهرة المنفى، وديناميات الهجرة وتبعاتها.

ويقدم الكتاب تحليلاً مقارناً لمقولات الأدب والسياسة وعلم الجمال، وكيف أعيد النظر فيها استجابة لسياقات الهجرة القسرية. والمؤلفة تلقي الضوء على الأدب العربي في أجزاء من الكرة الأرضية، قلما التفت إليها النقاد من قبل، مثل فنلندا والدنمارك وألمانيا، فضلاً عن بلدان حوض البحر المتوسط، وتركيا، وأوروبا الشرقية.

وعلى حين تركز جوهانا سلمان اهتمامها على الأدب المكتوب باللغة العربية، فإنها لا تغفل ذكر الأدب الفرنكفوني في شمال أفريقيا، وكذلك الكُتاب العرب الذين يجمعون بين الكتابة باللغة العربية والكتابة بلغة أجنبية، كالإنجليزية والألمانية، وغيرهما.

ومن أهم المفاهيم النقدية التي تستخدمها المؤلفة مفهوم «نزع قناع الألفة» الذي أذاعه الناقد الشكلاني الروسي فيكتور شكلوفسكي في مقالة قوية الأثر عنوانها «الشعر بوصفه تقنية» (1917)، ويقصد بهذا المفهوم قدرة العمل الأدبي على جعلنا نُبصر الأشياء بأعين جديدة؛ حيث إن اعتيادنا الشيء قد يلقي ستاراً عليه، فالفن يساعدنا على استعادة إحساسنا بنضارة الأشياء بعد أن غلب عليها روتين الحياة اليومية ورتابة التكرار، ويتحقق ذلك بعدة وسائل فنية، من أهمها الدفع بالوسيط اللغوي إلى مقدمة الصورة.

وإذا ذُكر أدب المنفى العربي، فلا بد من أن نذكر رائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» (1966) التي تقع منها قضية الهوية في الصميم، ففي ختام الرواية ينزل الراوي إلى نهر النيل مهدداً بالغرق، في محاولة مستيئسة للعثور على معنى ما مر به من خبرات. إننا نراه معلقاً بين ضفتي النهر، بين الليل والنهار، والشرق والغرب، والشمال والجنوب، بل بين الحياة والموت. إنها أزمة المثقف العربي الذي تلقى تعليماً أوروبياً ولكن جذوره الوجدانية ظلت ضاربة في أرض الشرق.

وتنتهي الرواية بهذه الصرخة البليغة يطلقها الراوي: «وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: النجدة، النجدة».

وفي رواية حنان الشيخ «إنها لندن يا عزيزي» (2000) نرى صورة للشتات العربي في لندن، فهي تتتبع مصائر مجموعة من الأغراب يلتقون في طائرة متجهة من دبي إلى لندن. والجديد الذي تأتي به الروائية -كما يقول الدكتور رشيد العناني في كتابه «البحث عن الحرية»- هو أنها «تبحث عن نقاط التلاقي لا التصادم بين الحضارات»، فشخصياتها العربية والغربية على السواء تتقاسم طبيعة إنسانية مشتركة بكل ما فيها من خير وشر، وقوة وضعف.

وهدى بركات في كتابها «رسائل الغريبة» (2004) تستخدم شكل الرسائل لاستكشاف معنى الغربة اللبنانية في باريس. هنا يجسد شكل الرسائل معنى الخبرة المقدمة، فهي ترفض أن تقدم سرداً متصلاً مستمراً، وإنما تقدم عوضاً عن ذلك أبنية سردية متقطعة، وسلسلة من صور الذكريات الشخصية، وتأملات شعرية في معنى الغربة.

ومن الكُتاب العرب الذين يكتبون بلغة أجنبية زياد عدوان؛ صاحب مسرحية «من فضلك كرر من بعدي» المكتوبة بالإنجليزية، وقد قدمت عام 2018 في ميونيخ، ثم عام 2019 في برلين. من الأسئلة التي تطرحها المسرحية: «متى يتوقف اللاجئ عن أن يكون لاجئاً؟»، وهي تستخدم أسلوب التغريب (أو نزع قناع الألفة) البرختي من أجل إيجاد فضاء مسرحي يدعو الجمهور إلى مواجهة أفكاره المسبقة عن مسرح الهجرة، ثم تنزلق المسرحية -عن قصد- إلى الفوضى والعبث، فتراوح الأنوار بين الإضاءة والانطفاء، وتبرز مشكلات الممثلين الأربعة الذين يلعبون أدوار اللاجئين، وتقوم مشادة بين الحكواتي وأحد الممثلين.

ما أشق المنفى! وما أعقد القضايا الإنسانية والأخلاقية والسياسية المشتبكة به، خصوصاً في يومنا هذا! هذا هو الانطباع الذي يخرج به قارئ كتاب جوهانا سلمان، ومعه يتذكر المرء حديث دانتي في كوميدياه الإلهية عن مرارة طعم الخبز، وصعود السلالم وهبوطها في المنفى، والشاعر الضليل امرئ القيس، الذي راح يضرب في آفاق الأرض مولياً وجهه شطر ملك الروم، والمتنبي الذي هجر عز العيش في كنف سيف الدولة الحمداني إلى هوان العيش في كنف كافور الإخشيدي، وأدرك أن «شر البلاد بلاد لا صديق بها».

إن الخيط موصول من هؤلاء جميعاً إلى زماننا الراهن، فالمنفى يتجدد في كل عصر (انظر رواية بهاء طاهر «الحب في المنفى»)، والغربة -فيما يبدو- قدَر لا فكاك منه في حياة عدد لا يُستهان به من نوابغ الأدباء.



وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
TT

وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)

تُوفي الملحن المصري محمد رحيم، في ساعات الصباح الأولى من اليوم السبت، عن عمر يناهز 45 عاماً، إثر وعكة صحية.

وكان رحيم تعرض لذبحة صدرية منذ أشهر، تحديداً في يوليو (تموز) الماضي، دخل على أثرها إلى العناية المركزة، حسبما أعلنت زوجته أنوسة كوتة، مدربة الأسود.

وكان رحيم قد أعلن اعتزاله مهنة الفن والتلحين في فبراير (شباط) الماضي، وتعليق أنشطته الفنية، وبعدها تراجع عن قراره ونشر مقطع لفيديو عبر حسابه الرسمي على «فيسبوك»، قال فيه حينها: «أنا مش هقولكم غير إني بكيت بالدموع من كتر الإحساس اللي في الرسائل اللي بعتوهالي وهتشوفوا ده بعينكم في ندوة، خلاص يا جماعة أنا هرجع تاني علشان خاطركم إنتوا بس يا أعظم جمهور وعائلة في العالم، وربنا ميحرمناش من بعض أبداً».

ونعى تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية، رحيم، وكتب عبر موقع «فيسبوك»، اليوم السبت: «رحم الله الملحن محمد رحيم وغفر الله له، عزائي لأهله ومحبيه، خبر حزين».

ورحيم من مواليد ديسمبر (كانون الأول) 1979. درس في كلية التربية الموسيقية، وبدأ مسيرته بالتعاون مع الفنان حميد الشاعري، وأطلق أول أغانيه مع الفنان المصري عمرو دياب «وغلاوتك»، ثم قدم معه ألحاناً بارزة منها أغنية «حبيبي ولا على باله». كما تعاون رحيم مع العديد من الفنانين، ومنهم: محمد منير، وأصالة، وإليسا، ونوال الزغبي، وأنغام، وآمال ماهر، ونانسي عجرم، وروبي، وشيرين عبد الوهاب، ومحمد حماقي، وتامر حسني، وغيرهم.

كما نعى رحيم عدد من نجوم الفن والطرب، وكتب الفنان تامر حسني عبر خاصية «ستوري» بموقع «إنستغرام»: «رحل اليوم صاحب أعظم موهبة موسيقية في التلحين في آخر 25 سنة الموسيقار محمد رحیم. نسألكم الدعاء له بالرحمة والفاتحة»، وأضاف: «صلاة الجنازة على المغفور له بإذن الله، صديقي وأخي محمد رحيم، عقب صلاة الظهر، بمسجد الشرطة بالشيخ زايد، إنا لله وإنا إليه راجعون».

منشور الفنان تامر حسني في نعي رحيم

وكتب الفنان عمرو دياب عبر حسابه الرسمي على «إكس»، اليوم السبت: «أنعى ببالغ الحزن والأسى رحيل الملحن المبدع محمد رحيم».

وكتبت الفنانة أنغام عبر موقع «إكس»: «خبر صادم جداً رحيل #محمد_رحيم العزيز المحترم الزميل والأخ والفنان الكبير، لا حول ولا قوة إلا بالله، نعزي أنفسنا وخالص العزاء لعائلته».

وكتبت الفنانة أصالة عبر موقع «إكس»: «يا حبيبي يا رحيم يا صديقي وأخي، ومعك كان أحلى وأهم أعمال عملتهم بمنتهى الأمانة بموهبة فذّة الله يرحمك يا رحيم».

كما كتب الشاعر المصري تامر حسين معبراً عن صدمته بوفاة رحيم: «خبر مؤلم جداً جداً جداً، وصدمة كبيرة لينا كلنا، لحد دلوقتي مش قادر أستوعبها وفاة أخي وصديقي المُلحن الكبير محمد رحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله».

كما نعته المطربة آمال ماهر وكتبت عبر موقع «إكس»: «لا حول ولا قوة إلا بالله. صديقي وأخي الغالي الملحن محمد رحيم في ذمة الله. نسألكم الدعاء».

وعبرت الفنانة اللبنانية إليسا عن صدمتها بكلمة: «?what»، تعليقاً على نبأ وفاة رحيم، في منشور عبر موقع «إكس»، من خلال إعادة تغريد نبأ رحيله من الشاعر المصري أمير طعيمة.

ونعته إليسا في تغريدة لاحقة، ووصفته بالصديق الإنسان وشريك النجاح بمحطات خلال مسيرتها ومسيرة كثير من زملائها.

ونشرت الفنانة اللبنانية نوال الزغبي مقطع فيديو به أبرز الأعمال التي لحنها لها رحيم، منها أول تعاون فني بينهما وهي أغنية «الليالي»، بالإضافة لأغنية «ياما قالوا»، وأغنية «صوت الهدوء»، التي كتب كلماتها رحيم. وكتبت الزغبي عبر «إكس»: «الكبار والمبدعون بيرحلوا بس ما بيموتوا».

ونشرت الفنانة اللبنانية نانسي عجرم صورة تجمعها برحيم، وكتبت عبر موقع «إكس»: «ما عم صدق الخبر». وكتبت لاحقا: «آخر مرة ضحكنا وغنّينا سوا بس ما كنت عارفة رح تكون آخر مرة». رحيم قدم لنانسي عدة أعمال من بينها «فيه حاجات» و«عيني عليك»، و«الدنيا حلوة»، و«أنا ليه».

ونشرت المطربة التونسية لطيفة عدة صور جمعتها برحيم عبر حسابها بموقع «إكس»، وكتبت: «وجعت قلبي والله يا رحيم... ده أنا لسه مكلماك ومتفقين على شغل... ربنا يرحمك ويصبر أهلك ويصبر كل محبينك على فراقك».

وكتبت الفنانة أحلام الشامسي: «إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلاً خبر صادم ربي يرحمه ويغفر له».

كما نعته الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي وكتبت عبر «إكس»: «وداعاً الفنان الخلوق والصديق العزيز الملحن المبدع #محمد_رحيم».

وشارك الفنان رامي صبري في نعي رحيم وكتب عبر حسابه الرسمي بموقع «إكس»: «خبر حزين وصدمة كبيرة لينا».

وشاركت الفنانة بشرى في نعي رحيم، وكتبت على «إنستغرام»: «وداعاً محمد رحيم أحد أهم ملحني مصر الموهوبين في العصر الحديث... هتوحشنا وشغلك هيوحشنا».

وكان رحيم اتجه إلى الغناء في عام 2008، وأصدر أول ألبوماته بعنوان: «كام سنة»، كما أنه شارك بالغناء والتلحين في عدد من الأعمال الدرامية منها «سيرة حب»، و«حكاية حياة».