قبل الدخول إليه تستقبلك حدائق الحسن الثاني الغنّاء الفسيحة الأرجاء. إنها من أجمل الحدائق والبساتين في العالم وأكثرها اتساعاً وانشراحاً. أحياناً تشعر وأنت تتجول في جنباتها وكأنك في جنة عدن. ثم بعدئذ تدخل إلى المعرض لكي تتجول بين الأجنحة ودور النشر العربية والأجنبية. وهل هناك متعة أكبر من هذه المتعة؟ رفوف الكتب تحيط بك من كل الجهات. أول شيء فعلته هو أني مررت على «دار المدى» لكي آخذ نسخة من كتابي «العرب بين الأنوار والظلمات». بعدئذ توجهت مباشرة إلى دور النشر الفرنسية لكي أرى ما هي آخر الإصدارات والمستجدات. كان أولها كتاب جيل كيبل المعنون على سبيل الاستهزاء «نبي في وطنه». والمقصود العكس: أي لا نبي في وطنه، كما يقول المثل الشهير. فجيل كيبل الذي كرس حياته كلها لدراسة موضوع الحركات الأصولية وأنتج على مدار أربعين عاماً أكثر من عشرين كتاباً مهماً، لم يحظَ بالاهتمام الكافي من قبل بلاده ولا من قبل الجامعات الفرنسية، بل رفضوا أطروحاته ووقفوا في وجهها سداً منيعاً. وقد فعلوا ذلك باسم الآيديولوجيا: العالم ثالثية بالأمس، والآيديولوجيا الإسلاموية - اليساروية اليوم. دائماً تقف الآيديولوجيا بكل شعاراتها الديماغوجية في وجه العلم النير والفكر الحر. ماذا فعل جيل كيبل؟ ما خطيئته التي لا تُغتفر؟ لقد طبق على الأصولية الإسلامية المنهجية نفسها التي طبقها فلاسفة الأنوار في أوروبا على الأصولية المسيحية. فهل ينبغي أن نعاقبه على ذلك أو نشكره؟ جيل كيبل هو وريث فولتير وديدرو والموسوعيين وارنست رينان وفيكتور هيغو ومكسيم رودنسون وكل عباقرة فرنسا وأنوارها. ولكن لا ينبغي أن يتشاكى كيبل ويتباكى أكثر مما يجب على حظه ونصيبه. تُرجمت مؤلفاته لمختلف لغات العالم وأصبحت مراجع أساسية للباحثين وأساتذة الجامعات. والواقع أنه عرف كيف يفكك من الداخل عقيدة الحركات الإخوانية الأصولية بكل تمكن واقتدار. وقدم بذلك خدمة كبرى لقضية التنوير العربي. فهل هذا قليل؟ هذا كثير وأكثر. لم يضع جيل كيبل وقته سدى. إنه كتاب ممتع جداً؛ لأنه يشبه نهاية المطاف وحصاد العمر. وككل كتب الذكريات والمذكرات له سحره الخاص، ويُقرأ بكل استمتاع دون توقف من أوله إلى آخره.
أنتقل لكتاب أمين معلوف الجديد بعنوان: «متاهة التائهين» أو الحائرين أو الضائعين الضالين، سَمّه ما شئت. وفيه يروي لنا المؤلف قصة الصراع بين الغرب وخصومه على مدار القرون الماضية.
الشيء الممتع في كتاب أمين معلوف هو أنه يبدأ بالتحدث عن صعود اليابان في عهد سلالة الميجي: أي الحكم المستنير. في السادس من أبريل (نيسان) عام 1868 أقسم إمبراطور اليابان على الكلام التالي: عادات الماضي السيئة ينبغي أن نهجرها ونتخلى عنها كلياً. كل شيء سوف يرتكز منذ الآن فصاعداً على قوانين الطبيعة الدقيقة والعادلة. العلم سوف نبحث عنه في العالم كله.
بدءاً من تلك اللحظة انطلقت النهضة اليابانية بسرعة صاروخية إلى حد أنها أدهشت البشرية بأسرها. فلأول مرة استطاعت أمة شرقية أن تكسر احتكار الغرب للسيطرة على العلم والحضارة والتكنولوجيا. من المعلوم أن هيمنة الغرب على العالم كانت قد أصبحت كاملة شاملة منذ القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر والعشرين. وكانت هيمنة شبه مطلقة على كافة الأصعدة والمستويات: من علمية وفلسفية وحضارية وتكنولوجية. ويعود الفضل في ذلك إلى عصر التنوير الكبير في القرن الثامن عشر وظهور الثورة الصناعية الإنجليزية التي كانت أكبر حدث في تاريخ البشرية كما يقول أمين معلوف. فقد ازدهرت عندئذ العلوم والتقنيات والأفكار بشكل هائل لا مثيل له في أوروبا الغربية أولاً، ثم أميركا الشمالية ثانياً. وهذا هو الغرب بالمعنى الواسع للكلمة: إنه أوروبا زائد أميركا. وأميركا هي بنت أوروبا كما كان يقول الجنرال ديغول. وأدى ذلك إلى تشكيل أكبر حضارة في تاريخ البشرية على يد الثورة الإنجليزية المجيدة عام 1688، والثورة الأميركية عام 1776، ثم بالأخص الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789. كل ذلك أدى إلى انتصار قيم عصر الأنوار على قيم الظلامية المسيحية والأصولية الكاثوليكية البابوية. ثم جاءت اليابان في أواخر القرن التاسع عشر لكي تلحق بالغرب وتنضم إلى ركب الحضارة والتقدم والرقي. وينبغي التوقف هنا قليلاً عند كلمات الإمبراطور الياباني المستنير المدعو بالميجي. فهذه الكلمات القلائل هي التي أشعلت نهضة اليابان ودشنتها. ماذا تعني في نهاية المطاف؟ ثلاثة أشياء أساسية: أولاً ضرورة القطيعة مع الماضي الأصولي القديم بغية تحقيق النهضة المرجوة. ثانياً البحث عن العلم في شتى أنحاء العالم المتحضر: أي في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وأميركا على وجه الخصوص. ثالثاً أن القطيعة مع الماضي الكسول والظلامي لا تعني ذوبان الشخصية اليابانية وانحلالها في الغرب، وإنما تعني أن التنوير بواسطة العلم والفلسفة والتكنولوجيا هو الطريق الوحيد لكي تخرج اليابان من تخلفها المزمن والطويل.
في نهاية المطاف يقول لنا أمين معلوف ما فحواه: لقد علمتني فلسفة التاريخ أن كل أولئك الذين يبنون وجودهم على كره الغرب بشكل مسبق وقاطع، سرعان ما يقعون في مستنقع الأصولية والبربرية والتخلف. وفي نهاية المطاف فإنهم لا يعاقبون الغرب ذاته، وإنما يعاقبون أنفسهم. ولكن هذا لا يعني أن كل أفكار الغرب وأنماط حياته وقيمه كانت دائماً مفيدة للبشرية. فالحق أننا نجد فيها الخير والشر، الإيجابي والسلبي. ولذلك لا ينبغي رفض الغرب بشكل مطلق ولا قبوله بشكل مطلق. وعلى كل أمة أن تأخذ من أفكار الحداثة ما يناسبها وتطرح ما تبقى غير مأسوف عليه.
بالطبع لا ينسى أمين معلوف أنه لبناني الأصل، وأن التراجيديا اللبنانية تضغط عليه وتؤلمه. ولكنها ليست لبنانية فقط، وإنما عربية شاملة أيضاً. وهي ناتجة بشكل أساسي عن التعصب الديني الأعمى. فالإنسان عندنا محكوم بأصوله الطائفية أو المذهبية غصباً عنه. وهذه مشكلة أساسية تعوق انطلاقة النهضة العربية. وبالتالي فما هو الحل؟ الحل هو في انتصار التنوير في العالم العربي كما انتصر في اليابان. ينبغي أن تنتصر أنوار العلم والفلسفة على ظلمات الجهل والتعصب وعبادة الأسلاف. ينبغي أن ننتصر على أنفسنا: أي على ماضوية الماضي. اليابانيون لم يترددوا لحظة واحدة في إحداث القطيعة مع ماضيهم التكراري الاجتراري بغية الانطلاق، فلماذا نتردد نحن؟ ولكن حذارِ: هذا لا يعني القطيعة مع كل الماضي، وإنما فقط مع العناصر الظلامية الارتكاسية من هذا الماضي التراثي. فهناك صفحات مضيئة رائعة في تراثنا العربي الإسلامي، وهناك ذخائر العرب ومكارم الأخلاق التي تحمينا من السقوط في مزالق الحضارة الغربية وانحرافاتها الإباحية التي أصبحت تقلق العالم.
أخيراً، فالسؤال المطروح هو: لماذا نجح التنوير الياباني نجاحاً باهراً وفشل التنوير العربي فشلاً ذريعاً؟ لماذا بعد كل تلك النهضة التنويرية الرائعة التي شهدناها في القرن التاسع عشر كما اليابانيين، فوجئنا بهذه الموجة الظلامية العارمة التي اكتسحت في طريقها كل شيء ولا تزال؟ ربما لأن الأصولية المطلقة متجذرة في أعماق أعماقنا أكثر من اليابانيين بكثير.
ولذلك يصعب تجاوزها. وربما لأن الأحقاد الطائفية المتراكمة والمتفاقمة عندنا لا تحتاج إلى أكثر من عود ثقاب لكي تنفجر وتشتعل. وهذا ما هو حاصل حالياً. وهذا الخطر غير موجود عند اليابانيين لحسن حظهم؛ لأن عقيدتهم ليست قائمة على مفهوم الفرقة الناجية واحتكار الحقيقة الإلهية المطلقة. وبالتالي، فلا يوجد عندهم شيء اسمه تكفير ونبذ وإقصاء وذبح على الهوية. بالنسبة لهم ولجميع الحضاريين، فإن كل الناس الطيبين الفاعلين للخير والخادمين للمجتمع والمصلحة العامة هم من الفرقة الناجية أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. لهذا السبب نقول إن معركة التنوير العربي القادمة ستكون شاقة جداً ومريرة. وسوف تستغرق عشرين أو ثلاثين سنة على أقل تقدير.