القراءة كقصة عاطفية

مارسيل بروست يحكي عن طقوسه للحصول على هذه المتعة

القراءة كقصة عاطفية
TT

القراءة كقصة عاطفية

القراءة كقصة عاطفية

يُجدد كتاب «يوميات القراءة» سيرة الأديب الفرنسي البارز مارسيل بروست، كما يسلط الضوء على علاقته الخاصة بالقراءة وتلقي الفنون، وعاداته وطقوسه التي كان يحرص على أن تصحبه في أثناء ذلك. الكتاب صدر حديثاً عن «المركز القومي للترجمة» بمصر. وقامت بترجمته إلى العربية الدكتورة دينا مندور.

يُطل بروست (1871 - 1922) في هذا الكتاب بصوته وذاكرته شديدة الحساسية للصورة، فيبدو فعل القراءة لديه مرتبطاً بشكل وثيق بالسياقين المكاني والزماني، وذلك عبر لغة بصرية، يبدو فيها الأديب الفرنسي الراحل وكأنه يروي طفولته في تقاطع وصفي يشبه - إلى حد كبير - تكنيك المشهد السينمائي. فيتذكر نفسه وهو الصبي الذي يقتنص ويتحيّن الفرص للاختلاء بكتاب جديد، يستكشف مبكراً تلك المتعة التي تمنحها له القراءة، دون أن يرتبط هذا بوصايا ونصائح الكِبار له بأهميتها، فيصف كيف «تخط القراءة بداخلنا شعوراً رقيقاً للغاية»، وكيف أن الوقت الذي كان يقضيه مع كتابه المفضل كان هو المتعة بعينها، المتعة المهددة دائماً بعدم الاكتمال، كأن يقطع صفو قراءته صديق يريد أن يلعب معه، أو «كإزعاج نحلة، أو أشعة شمس أجبرتنا على رفع أعيننا عن الصفحة، أو العشاء الذي ينبغي أن نعود من أجله ولا نفكر أثناءه إلا في الصعود بعد انتهائه، لاستكمال الفصل الذي قطعناه من أجله».

يبدو «الصبي» مارسيل وكأنه يتوسل من العالم بعض السكون وهو بمصاحبة كتابه، وهو الأمر الذي يكاد يكون مستحيلاً في فترات العطلات، ولكنه كان قد هيأ لنفسه وسائل للهروب من النزهات العائلية، فيندس في غرفة الطعام عند خروج الجميع، حيث يجالس كتابه بمصاحبة بعض رفاق الصمت الذين لا يقطعون تركيزه، وهم: البندول، ونار المدفأة، والأطباق المنقوشة المعلقة على الحائط، يذكرهم بروست بكل تفصيل وامتنان، وهو يروي في كتابه رحلته المبكرة مع القراءة بتفاصيل بالغة الأثر.

على هامش المكان

يتقاطع الحِس النقدي مع ذكريات بروست، بما في ذلك ملاحظاته حول أهل بيته وتفاصيل غرفته، فيستدعي، على سبيل المثال، مقولة للشاعر ومُصمم الديكور الإنجليزي الشهير وليام موريس، الذي حدد شرطاً للغرفة الجميلة باحتوائها على أشياء مفيدة لساكنها، فيتأمل بروست غرفته التي يقول إنها بمنطق موريس لم تكن غرفة جميلة قَطّ، وينقد بروست تلك النظرة «النفعية» لمفهوم الجمال، ويُفند كيف كان يرى في غرفته جمالاً خاصاً رغم أنها كانت تعج بأشياء غير مفيدة على الإطلاق، ولكنه في الوقت نفسه الجمال الذي لم يكن يخصه، فهو يعبر عن ذوق عائلته، فأدرك مع الوقت أن غرفته صورة من ذوقهم، ويختبر تدريجياً ما قد تكونه تلك الغرفة التي يعثر فيها على أفكاره الواعية، فيتعرف على راحة خاصة في غرف فنادق الأقاليم «حيث نبسط أشياءنا هنا وهناك، ونلعب دور السيد في هذه الغرفة المملوءة حتى حافتها بأرواح الآخرين».

يُعدد بروست، الذي احتفلت فرنسا بمئويته قبل عامين، الأماكن التي تنقّل فيها بكتبه؛ رُكن المدفأة بغرفة الطعام، أو قلب الكرسي الوثير بمسند رأس من الكروشيه، وحتى عشب الحديقة التي كان يسير كيلومتراً للوصول إليها، ويتوقف كثيراً عند محاولة وصف ذلك الشعور الذي كان ينتابه عند الانتهاء من قراءة كتاب، بعالمه وشخصياته والضجة التي أثارها في داخله، أو بتعبيره: «تلك المخلوقات التي منحناها من اهتمامنا وحناننا أكثر مما منحناه لأشخاص في الحياة، ولا نجرؤ في الغالب على الاعتراف لهم إلى أي درجة نُحبهم».

يعتقد صاحب «البحث عن الزمن المفقود» أن القراءة لا يمكن أن تتشبه بالمحادثة حتى لو كانت مع أكثر الرجال حكمة، ويرى أن الفارق بين الكتاب والصديق لا يكون بمعيار حكمة أحدهما التي هي أكثر أو أقل، إنما بالطريقة التي نتواصل بها مع كل منهما، فالقراءة عكس المحادثة، تنصب على استقبال التواصل من فكر آخر، مع الاحتفاظ بأن نظل بمفردنا، تلك الوحدة التي تبددها المحادثة مع أحد آخر على الفور.

فالكتب الجميلة، حسب بروست، تلعب دوراً في تشكيل حياتنا الروحية، فما يسميه الكُتاب «نهايات» تكون بالنسبة للقارئ «مُحفزات»؛ إذ يشعر أن حكمته تبدأ حيث تنتهي حكمة المؤلف، ما يمنحنا الرغبة في تأمل الجمال الأسمى بداخلنا، فهناك دائماً مسافة بين ما يُخبرنا به الكتاب وبين ما سكت عنه، أو بتعبيره: «في اللحظة التي يخبروننا فيها بكل ما يستطيعون قوله لنا، يولّدون فينا مشاعر لم يُحدثونا عنها بعد»، فما يثيره فينا الشعراء، على سبيل المثال، هو تأثير الحب، حين يجعلون القارئ يُعلّق أهمية على أشياء ليست بالنسبة لهم إلا دلالات لشعور شخصي.

قرابة روحية

ولا تنطلي دائرة التأثير تلك التي يتأملها بروست فقط على صعيد الكتابة الأدبية أو الشِّعرية فحسب، فهو يرى أن هذا التأثير هو ما تُحدثه داخلنا الفنون التشكيلية كذلك، «فالرسامون يُعلموننا على طريقة الشعراء»، على حد تعبيره، ويضرب هنا العديد من الأمثلة؛ منها لوحة «ربيع» لميليه التي ربما رغبنا مراراً أن نكون جزءاً من حقلها، وربما أردنا أن يأخذنا كلود مونيه إلى بلدة «جيفرني» على ضفة نهر السين، عند انحناءة النهر التي تركنا بالكاد نلمحها وسط ضباب الصباح في لوحته، يُطلق بروست على تلك الآصرة التي يشعر بها المتلقي «القرابة الروحية» التي تجعله يشعر بأن ثمة انتماء لهذا الحقل، أو تلك الانحناءة في النهر؛ إذ في كل لوحة يقدمونها لنا، لا يمنحوننا إلا لمحة سريعة لمشهد رائع، مختلف عن بقية العالم، في حين نرغب نحن أن نخترقه ونصير جزءاً منه.

يبدو كتاب بروست «يوميات القراءة» أقرب لحالة عاطفية، ليس فقط لخصوصية ما حملته ذكرياته من أماكن وتأملات في عملية القراءة نفسها، بل لأنه استشعر فيها دائرة أمان لا تعرفها العلاقات الحياتية، فهي «صداقة مخلصة»، صداقة لا تعرف حفاوة مُزيفة، ولا قلق فيها حيال انطباعات الآخرين عنا: «ما رأيهم فينا؟ هل أعجبناهم؟ إلى جانب الخوف من أن ينسانا هذا الآخر»، كل تلك الغصة ومنغصات الصداقة تتلاشى على عتبة تلك الصداقة النقية والهادئة مع القراءة؛ إذ لا حاجة للتزييف، فنحن، مثلاً، لا نضحك على ما يقوله «موليير» إلا لأنه مُضحك فعلاً، وحين يُضجرنا لا نخشى من أن يبدو علينا الضجر، «وإذا لم نعد نرغب في أن نكون موجودين معه، سنعيده إلى مكانه، وكأنه ليس عبقرياً ولا من المشاهير»، كما يقول بروست ساخراً.

وحسب بروست، فإن الكتاب إن لم يكن مرآة لفردية مؤثرة، يظل مرآة لعيوب مثيرة للفكر. ويستدعي شذرات من الكتب التي ساهمت في تكوين قدرته على الدهشة والكتابة، منها كتاب «الكابتن فراكاس» للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه، وهو رواية مغامرات تدور أحداثها في القرن السابع عشر، يقول إنه أحب في هذا الكتاب جملتين أو ثلاثاً بدت له الأكثر أصالة وجمالاً في الكتاب كله، فلا يتخيّل أن يكون أي كاتب آخر قد كتب مثلها، يقول إن مكمن جمال هذه الجملة هو أن جوتييه كتبها وهو على دراية كاملة بهذا الجمال، وهي الجملة التي قال فيها: «الضحك ليس قاسياً أبداً بطبيعته، فهو يُميّز الإنسان عن الدابة، وهكذا كما ظهر في (الأوديسة) لهوميروس، امتياز الآلهة الخالدة والسعيدة الذين يضحكون على الطريقة الأولمبية، سُكارى في أوقات فراغهم في الأبدية»، يُعلق بروست هنا: «تلك العبارة منحتني سُكراً حقيقياً، اعتقدت أنني لم أرَ من قبل هذا القِدم الباهر للعصور الوسطى، الذي لا يستطيع إيقاظه عندي إلا جوتييه».


مقالات ذات صلة

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

ثقافة وفنون المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون «وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

ثمة انتظام حكائي سردي موضوعاتي تحرص رواية «وادي الفراشات» لأزهر جرجيس («مسكيلياني»- تونس «الرافدين») على اقتفاء آثاره شبه الثابتة في روايتين سابقتين لأزهر جرجيس

حمزة عليوي
ثقافة وفنون عبد اللطيف حاج محمد

ترجمة 4 أعمال سعودية للسويدية

ترجمت حديثاً إلى اللغة السويدية أربعة أعمالٍ أدبية سعودية، وتأتي هذه المبادرة ضمن مشروع «مبادرة ترجم»، التي أطلقتها «هيئة الأدب والنشر والترجمة»

كمال شيخو (دمشق)
ثقافة وفنون إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية

بعد رصيد من الأعمال الروائية، يعود الكاتب المصري إبراهيم فرغلي إلى القصة القصيرة من خلال مجموعته «حارسة الحكايات» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «الأدب العرفاني»... تجليات روحانية في حدائق الإبداع

«الأدب العرفاني»... تجليات روحانية في حدائق الإبداع

عن دار «الوفاء لدنيا الطباعة» بمدينة الإسكندرية صدر كتاب «الأدب العرفاني - في الشعر والقصة والرواية»، للناقد والكاتب أحمد فضول شبلول

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟
TT

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟ كيف تؤثّر هذه الممارسات على مصداقيّة النصوص المترجمة وعلى فرصها في الوصول إلى دوائر الأضواء الأدبية والمنافسة في الجوائز العالمية المرموقة؟ وهل يمكن لأدب مترجم أن يُحافظ على خصوصيته إذا عُومل كنصّ تقنيّ أو منتج صناعيّ، بعيداً عن حساسيّة الترجمة الأدبيّة وجماليّاتها؟ كيف يمكن لبعض التصرّفات الراهنة في العالم العربيّ أن تواكب التحدّيات الثقافية وتضمن أن يكون للمترجمين مكانة اعتبارية تعزّز من دورهم في المشهد الأدبيّ؟

من البديهيّ القول إنّه لا يمكن تجاهل الدور المحوريّ الذي يلعبه المترجمون في وصل الثقافات وجسر الفجوات بين الأمم عبر ترجماتهم، وإنّهم، كفاعلين ثقافيّين، يعملون في منطقة توازن دقيقة بين الحفاظ على أمانة النصّ الأصليّ وجماليّات اللغة الهدف، والحفاظ على روح النصّ وضرورات السياق الثقافيّ. ومع ذلك، تراهم يظلّون في كثير من الأحيان في الهامش، مغيّبين، سواء من خلال تهميش اسمهم أو التعامل مع جهودهم كعمل تقنيّ خالٍ من الإبداع، أو كأنّ دورهم ينتهي بمجرّد حصولهم على أجورهم الماليّة.

ومعلوم أنّ الترجمة عمل إبداعيّ يتطلّب حساسية أدبية وفنّية عالية، والمترجم في هذا الإطار ليس ظلاً للنصّ الأصليّ، بل هو شريك، و«صاحب» النصوص في اللغة المترجَمة بصيغة ما، يُسهم في تطويرها وإغناء معانيها، كما أكّد أمبرتو إيكو في كتابه عن الترجمة: «أن نقول الشيء نفسه تقريباً»؛ حيث أشار إلى أنّ الترجمة هي عملية «قول الشيء نفسه ولكن بطريقة مختلفة».

أحد أبرز مظاهر التهميش تتجلّى في عدم وضع أسماء المترجمين على أغلفة الكتب، كما هو الحال في بعض دور النشر العربية، التي تكتفي بذكر اسم المترجم داخل الصفحات. هذا الأسلوب ينزع عن المترجم حقّه في الظهور في المقدّمة، ويضيّع على القارئ فرصة اكتشاف اسمه من الغلاف؛ لأنّه يتعامل مع رؤى المترجم واجتهاده، ما يجعل حضوره الاعتباريّ ضرورياً لضمان مصداقيّة النصّ. وفي حالة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية واللغات الأخرى، نشير هنا إلى حالة جائزة «كتارا للرواية العربية»؛ حيث يتمّ تغييب أسماء المترجمين عن الأعمال المترجمة إلى الإنجليزية أو الفرنسية، سواء على الأغلفة أو حتى داخل الصفحات، وهذه الطريقة تقدّم النصوص والروايات الفائزة بـ«كتارا» وكأنها صادرة باللغة الإنجليزية أو الفرنسيّة من دون أيّ وسيط، متجاهلةً الدور المركزيّ للمترجم في تشكيل النصّ، ما يُعتبر طمساً لجهدٍ إبداعيّ أساسيّ، وحرماناً للنصّ المترجم من حقوق البحث عن الظهور في اللغات الجديدة في المجال الذي يقدّم فيه.

الجائزة التي يفترض بها الاحتفاء بالرواية العربية الحديثة قد تعود بمفعولٍ عكسيّ في حالة ترجمة الأعمال المتوّجة بها، فتقدّم نصوصاً غفلاً من اسم المترجم لقارئ مهتمّ بأدقّ التفاصيل، يختار بعناية ما يقرأ ولماذا يقرأ.

وفي هذا السياق تبرز قضية أخرى لا تقلّ أهمّية وهي الاعتماد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية. هذه الممارسة - وإن أمكن تبريرها في مجالات محدّدة - تؤثّر على جوهر النصوص ذاتها، ممّا يؤدّي إلى فقدانها لفرادتها وجمالياتها وخصوصيتها التي تُعتبر جزءاً رئيساً من روح النصّ الأصليّ. والاستعانة بشركات ترجمة، من دون وضع أسماء المترجمين وإعلان هويّاتهم، يعني أنّ النصّ الإبداعيّ يُعامَل كمنتج قياسيّ، وليس كعمل إبداعيّ مميّز. في هذه الحالة، تُصبح الترجمة أشبه بخطّ إنتاج صناعيّ؛ حيث تُفقد النصوص خصوصيّتها بسبب التعامل معها كموادّ قابلة للنقل من دون مراعاة تفاصيلها الفريدة. هذا الفقدان للخصوصية يُحدث خللاً في تلقّي النصوص المترجمة؛ لأنّ القارئ في اللغة الهدف يتلقّى نسخة منقوصة من النصّ الأصليّ، تفقد روحها وشغفها الذي أراد المؤلّف، والمترجم المعلن عن اسمه وهويّته نقله في حال تثبيته.

ولا يخفى أنّه في عالم الأدب والترجمة، هناك جوائز أدبية كبرى تُدرك أهمّية دور المترجم كشريك إبداعيّ إلى جانب الكاتب، منها جائزة «مان بوكر الدولية البريطانية»، على سبيل المثال، تُعدّ نموذجاً رائداً في تكريم المترجمين. إذ تُمنح الجائزة مناصفةً بين المؤلّف والمترجم، ما يعكس إيماناً راسخاً بأنّ العمل الأدبيّ المترجم هو نتيجة لجهدٍ إبداعيّ مشترَك. هذه الخطوة بالإضافة إلى أنّها تكريم رمزي ومادّيّ، هي إقرار بأهمية المترجم في إبراز النصوص وتحقيقها لأقصى درجات التأثير والجمالية في اللغات الجديدة.

حين يُنشر عمل أدبيّ دون ذكر اسم المترجم، فإنه يُلحق الضرر بالنصّ نفسه، حيث يحرمه من فرص المشاركة في الجوائز الأدبية العالمية المرموقة المخصّصة للأعمال المترجمة. مثل هذه الجوائز، كجائزة BTBA (Best Translated Book Award) الأميركية، تعطي قيمة كبيرة للترجمة والمترجمين وتعتبرهم جزءاً أساسياً من الإبداع الأدبيّ. وعدم ذكر اسم المترجم يجعل النصّ مجهول الهويّة من الناحية الاعتبارية، وبالتالي يُستبعد من المنافسة في هذه الجوائز التي تُعزّز مكانة النصوص المترجمة وتضعها في دائرة الضوء العالميّ.

قسم من دور النشر يعتمد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية

ومع ظهور أدوات وتطبيقات الترجمة الآلية وتطوّر الذكاء الاصطناعيّ - وهذه أدوات مفيدة وتساعد في الترجمة - قد يتبدّى أنّ الجانب البشريّ في الترجمة مهدّد بالتهميش، لكنّ النصوص الأدبية، بما تحمله من حساسية وجماليات، لا يمكن أن تُترجم بطريقة آلية خالية من الإبداع، والمخرج النهائيّ هو الإنسان الذي يضيف بُعداً ثقافيّاً وفنّياً يعجز الذكاء الاصطناعي عن تحقيقه، ما يجعل دوره حيويّاً في الحفاظ على روح النصوص وجماليّاتها.

يُعدّ ذكر اسم المترجم على غلاف الكتاب إعلان مسؤولية أدبيّة وثقافية؛ لأنّ وجوده يعني أنّ هناك شخصاً يتحمّل مسؤولية جودة الترجمة، ويُطمئن القارئ إلى أنّ النصّ قد خضع لمعالجة جادّة تعكس قيمته. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ غياب الاسم قد يؤدّي إلى تقويض القيمة المعنوية للنصّ المترجم نفسه. لذا من المهمّ أن يصبح ذكر اسم المترجم معياراً للأعمال المترجمة؛ لأنّه يعكس الاعتراف بالدور الثقافيّ والإبداعيّ المستحقّ، ومن المهمّ تعزيز حضور المترجم إعلامياً وثقافياً حين الاحتفاء بالكتب التي ترجمها؛ لأنّ ذلك ضرورة لإرساء قيم العدالة الثقافية وتعزيز مكانة الأدب العربيّ المترجم في الساحة العالمية.

* كاتب كردي سوري.