الشبحُ في الآلة

أصبح الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT
20

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم


مقالات ذات صلة

«رفيف الفراشة»... الأحلام والحب الضائع

ثقافة وفنون «رفيف الفراشة»... الأحلام والحب الضائع

«رفيف الفراشة»... الأحلام والحب الضائع

في روايته الجديدة «رفيف الفراشة» الصادرة أخيراً في القاهرة عن دار «العين»، يسعى الروائي العراقي المقيم بالعاصمة البلجيكية بروكسل زهير كريم، إلى خلخلة فكرة الزمن

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية

شي جينبينغ... الإمبراطور الجديد ابن الأرض الصفراء

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض زعيماً لدولة العالم العظمى، يبدو مسرح السياسة الدّوليّة خالياً من شخصيات يمكن أن تكون نِدّاً تاماً له

ندى حطيط
كتب سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان  العصر الذهبي

سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي

ربما كان سليمان بشير ديان أهم مثقف سنغالي في هذا العصر. وهو على أي حال أحد فلاسفة الإسلام المعدودين حالياً.

هاشم صالح
كتب «100 مفتاح» للدخول إلى عالم المال والاستثمار

«100 مفتاح» للدخول إلى عالم المال والاستثمار

عن دار «المثقف» للنشر والتوزيع، صدر مؤخراً كتاب للصحافي الاقتصادي السعودي جمال بنون، الذي يقدم فيه «100 مفتاح للدخول إلى عالم المال والاستثمار»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون صدور المجلد السابع من عشرية الفلسفة الفرنسية المعاصرة

صدور المجلد السابع من عشرية الفلسفة الفرنسية المعاصرة

صدر المجلّد السابع من عشريّة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة «الفلسفات المسيحيّة» في دار «صوفيا» بالكويت

«الشرق الأوسط» (الكويت)

شي جينبينغ... الإمبراطور الجديد ابن الأرض الصفراء

شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
TT
20

شي جينبينغ... الإمبراطور الجديد ابن الأرض الصفراء

شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض زعيماً لدولة العالم العظمى، يبدو مسرح السياسة الدّوليّة خالياً من شخصيات يمكن أن تكون نِدّاً تاماً له، باستثناء الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي يقود ثاني أكبر اقتصاد في العالم والمنافس الرئيس للولايات المتحدة.

لكن بينما يملأ ترمب الدنيا ويشغل الناس، ويتابع الملايين في الولايات المتحدة وحول العالم يومياته وتصريحاته وتغريداته، فإن هنالك الكثير عن الزعيم الصيني شي غير متداول، ولا توجد مصادر حديثة عنه تتوفر للقارئ العادي المعاصر، ولذلك؛ فإن كتاب الصحافي البريطاني مايكل شيريدان الجديد «الإمبراطور الأحمر: شي جينبينغ والصين الجديدة» يأتي في وقت مناسب لإلقاء الضوء على الشخصيّة التي ستكون الثقل المقابل لـ«الرجل البرتقالي» طوال السنوات الأربع المقبلة.

النفَسُ الحاكم للكتابِ، المنسوجِ على خط التقاطع بين النص الأكاديمي والتغطية الصحافيّة، يقدّم الزعيم شي بوصفه شخصيّة شديدة التعقيد ورجلاً عنيداً وصلباً، لكنّه عانى مع ذلك من تجارب قاسية في مرحلة الطفولة، وقائداً براغماتياً لا يزال يحتفظ بتقدير عميق للآيديولوجية الماركسيّة - اللينينية، وصعد إلى أعلى مراتب القيادة في الحزب الشيوعي الصيني الحاكم مع أنّه تعرّض هو ووالده - شي تشونغشون - لاضطهاد السلطات الشيوعية إبان مرحلة الثورة الثقافيّة (1966 - 1976).

يكرّس شيريدان كثيراً من الاهتمام لـ«شي» الأب الذي كان شريكاً للرئيس ماو تسي تونغ، وترقى إلى رتبة نائب رئيس الوزراء قبل تطهيره في عام 1962، حيث سُجن وأُجبر على القيام بنقد ذاتي، وكُلّف بعمل يدوي في مصنع للجرارات، فقضى 16 عاماً متتابعة متوارياً عن أضواء السياسة، قبل أن يعاد تأهيله السياسيّ في عام 1978 ويستأنف نشاطه الحزبي.

في تلك الأثناء وجد شي الابن نفسه منفياً إلى قرية فقيرة في الريف لمدة 7 سنوات يمارس العمل الشاق في الحقول مع المزارعين، فتذوق طعم الفقر والإذلال العلني - بصفته ابناً لمسؤول كبير فقد ثقة الحزب - بعيداً عن رعاية والديه. على أن أقسى لحظاته على الإطلاق كانت خلال عقد قلاقل الثورة الثقافية، عندما دشّن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ «ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى» ضد من سماهم «ممثليّ البورجوازية» الذين اخترقوا الحزب الشيوعي، معلناً أنه سيعمل على اجتثاثهم؛ إذ خضع شي المراهق وقتها لأكثر من 12 «جلسة مراجعة»، كانت نوعاً من الإذلال العلني للأشخاص الذين عُدّوا «أعداء طبقيين». وقد سُجن حينها أيضاً، وأصيب بالجوع، وغزت ثيابه البراغيث. ويروي شيريدان أن «شي نجح في الفرار من السجن في إحدى الليالي المظلمة، وركض عبر أزقة بكين الغارقة في الأمطار إلى منزله متأملاً الحصول على وجبة ساخنة، وملابس نظيفة جافة. لكن والدته؛ التي ارتجفت هلعاً على سلامة أشقائه، رفضت استقباله، وأبلغت السلطات عن هروبه؛ لأنها كانت تعلم أن منزلها مراقب، وعقوبات لا نهاية لها ستطولها وأسرتها».

يقول المؤلف إن هذه المرحلة من حياة شي؛ على دورها التأسيسي لشخصيته لاحقاً بصفته زعيماً سياسياً لدولة عظيمة، لم تكن سوى واحدة من كثير من المحن التي مرّ بها في عصر التقلبات الثوريّة، والتي صقلت عناده، وشكلّت مرجعيات أدائه المهني. ولاحقاً تبدو مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 حدثاً تأسيسياً آخر له، وهي لحظة من التاريخ ترددت أصداؤها في أروقة «الحزب الشيوعي الصيني» أكثر من غيره، وعدّها شي نتاج هفوات في اتباع الآيديولوجيّة الماركسيّة من قبل الرّفاق في موسكو، قائلاً، وفق محضر اجتماع رسمي طبق وثائق الحزب: «كان أحد الأسباب المهمة هو أن الصراع في الإطار الآيديولوجي كان شديداً للغاية، حيث نُفي تماماً تاريخ الاتحاد السوفياتي، ونُفي تاريخ الحزب الشيوعي، ونُفي لينين، ونُفي ستالين، وخُلقت عدمية تاريخية وتفكير مشوش». ويزعم شيريدان أن جوزيف ستالين؛ الزعيم البلشفي الذي تولى حكم الاتحاد السوفياتي بعد فلاديمير لينين، يمتلك التأثير الأكبر على شي وكثير من الشيوعيين الصينيين؛ إذ بالنسبة إليهم كان هو باني الجسر الذي نقل الماركسية اللينينية إلى رفاقهم مؤسسي «الحزب الشيوعي الصيني»، والاتحاد السوفياتي في عهده (1922 - 1953) يعدّ نموذجاً ملهماً للثورة والمقاومة والبقاء.

يرى شيريدان أن الحلقة الأعلى دراميّة في سيرة شي ربما تمثلت في قراره عام 2014 إطاحة تشو يونغ كانغ، الذي أصبح أعلى مسؤول يجري إسقاطه بسبب الفساد منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. فالرجل كان مديراً لوكالة الأمن الصينية الهائلة وعضواً في المكتب السياسي لـ«الحزب الشيوعي»؛ أي نواة القوّة الحاكمة في الصين، مما أثار لدى اعتقاله موجة من الذهول على كل المستويات. لكن تبين في المحاكمات أنّه استغل منصبه لمآرب جنسيّة، وصودرت أصول امتلكها بطرق ملتوية تزيد قيمتها على 10 مليارات دولار أميركي؛ بما في ذلك مئات الشقق والعقارات، و60 سيارة فاخرة، ومقتنيات من الذهب، والفضة، والمجوهرات، والتحف، واللوحات، والمشروبات الكحوليّة المعتّقة، ناهيك بمبالغ نقدية ضخمة بعملات أجنبية. وبينما حُكم على تشو بالسجن مدى الحياة، تكرّست زعامة شي، في المقابل، شعبياً ورسمياً.

يقدّم الكتابُ الزعيمَ شي بوصفه شخصيّة شديدة التعقيد ورجلاً عنيداً وصلباً... لكنّه عانى من تجارب قاسية في مرحلة الطفولة

شيريدان، الذي كان مراسلاً لـ«صنداي تايمز» البريطانية من الشرق الأقصى لنحو 20 عاماً، واستفاد من هيوارد تشانغ، الرئيس السابق لـ«الخدمة الصينية» في «بي بي سي» للوصول إلى مواد قد لا تتوفر للعموم باللغة الصينية، كما من علاقات واسعة متشعبة له مع خبراء غربيين وصينيين عملوا في الغرب، وضباط استخبارات، أضاء على حياة شي الشخصيّة والمهنية، متجنباً بحذق السقوط في شرك التحليل النفسي وفرض المواقف الذاتية للمؤلف كما في كثير من الكتب الغربيّة عن قادة الصين. على أنّ السرد لا يتصدى على نحو كافٍ لتوصيف المزاج الفكريّ للرئيس شي، ربما انعكاساً لفهم خاطئ متفشٍّ في بعض الدوائر الغربيّة عنه بوصفه سياسياً براغماتياً مع قليل من القناعات الآيديولوجية.

ولكن الحقيقة أن ثمة فلسفة مؤدلجة تحكم أداء شي العام منذ توليه عام 2012 المنصب الأهم في هيكلية القيادة بالصين ضمن ثلاثية «الحزب والدولة والجيش»، وهي أقرب ما تكون إلى نسخة قومية صينية من «الماركسيّة - اللينينية»، تمنح الزعيم الحافز والدافعية لقيادة نهضة جديدة لبلاده على أسس تعزيز المركزية في صنع القرار، ودور الدّولة الرئيس في توجيه الاقتصاد وتنظيم الأسواق، وتدعيم قدرة الجيش على مواجهة التحديات الغربيّة في إطار نهج من السياسة الخارجية الأشد حزماً وتقبلاً لفكرة «التصادم مع الأعداء إن تطلب الأمر».

بالاعتماد على القصص المتداولة في العالم المغلق للعائلات الرائدة في الصين، كما وثائق وسجلات لا تتوفر للأكثرية من المراقبين، يقدم كتاب «الإمبراطور الأحمر» بانوراما غنيّة عن تاريخ الصين المعاصرة، وسياساتها في العقد الأخير، عبر سيرة وافية لشخصية زعيم كبير يدرك تماماً طبيعة لعبة السلطة، ويمتلك سلطات نافذة على شؤون 1.4 مليار من البشر؛ مما يدفع القارئ إلى الاستنتاج أنّه خلف واجهة «الحزب الشيوعي الصيني» اليوم ثمة «سلالةٌ حديثةٌ» لديها شعور عميق باستحقاق حكم البلاد - بناء على انتصارات أسلافهم - والأهم «إمبراطورٌ جديدٌ»، ابن للأرض الصفراء، قد عقد العزم على أن تتبوأ الصين دور الهيمنة على الشرق.

The Red Emperor: Xi Jinping and His New China» by Michael Sheridan, Headline Press, 2024»