أزمة ثقافيّة عميقة في الغرب

فجرتها حرب غزة وتعددت منصاتها بالجامعات ومعارض الكتب

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس
TT

أزمة ثقافيّة عميقة في الغرب

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس

يعتزم وزير مالية يوناني سابق، ومؤلف عدة كتب واسعة الانتشار، ومرشح دائم للانتخابات الأوروبيّة، رفع دعوى على السلطات الألمانية بعدما فرضت عليه حظراً لمدة عام من التحدث في أنشطة عامة على الأراضي الألمانية، أو حتى افتراضياً في حال تم تنظيم النشاط من قبل جهة ألمانية. وقال يانيس فاروفاكيس إنّه سيلجأ بداية إلى المحاكم المحليّة في ألمانيا، وإذا تطلب الأمر إلى أعلى المحاكم الأوروبيّة لحقوق الإنسان.

وكان فاروفاكيس يعتزم المشاركة في مؤتمر للتضامن مع الفلسطينيين من تنظيم جهات يسارية ويهودية ألمانية، وألغي في اللحظة الأخيرة من قبل السلطات، وبمحض القوة، بحجة أنّه مخالف للقوانين التي تحظر معاداة الساميّة في ألمانيا. واقتحم رجال الشرطة مقر المؤتمر بعدما قطعوا الكهرباء عنه، وطردوا الجمهور المحدود الذي سمح له بالدخول إليه، واعتقلوا عشرات، بمن فيهم شاب يهودي كان يحمل لوحة تقول «يهود ضدّ المذبحة». وسخر الشاب من معتقليه بسؤالهم عما إذا كان تغيير اللوحة إلى «يهود مع المذبحة» كفيل بإطلاق سراحه.

ولم يقتصر الأمر على فاروفاكيس، بل ومنع آخرون من دخول الأراضي الألمانية وأعيدوا من مطار برلين لمنع مشاركتهم في ذات المؤتمر، ومنهم الطبيب البريطاني الفلسطيني الأصل غسّان أبو ستة الذي خدم في مستشفيات غزة متطوعاً لما يقرب من الشهرين، وكان يعتزم الإدلاء بشهادته عن انطباعاته أثناء ذلك، وأيضاً السياسي الإيرلندي ريتشارد بويد باريت. واكتشف أبو ستة لاحقاً أن الحظر الذي فرضته السلطات الألمانية عليه لمدة عام له مفاعيل تمتد عبر الاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين، إذ منع لاحقاً من الدخول إلى الأراضي الفرنسية، وأعيد إلى لندن رغم أنه كان يحمل دعوة للتحدث أمام مجلس الشيوخ الفرنسيّ.

بالطبع، لم تكن حالة المؤتمر الألماني المتضامن مع الفلسطينيين أول الأحداث المثيرة للجدل التي تسببت فيها الحرب الإسرائيليّة على غزة، وقطعاً لن تكون آخرها، إذ انسحبت على مجمل الأنشطة الثقافية والفنية والموسيقيّة، وتعددت ساحاتها من الجامعات إلى معارض الكتب، ومن المهرجانات الثقافيّة إلى الحفلات الموسيقيّة، ومن الجوائز الأدبيّة إلى الأمسيات الشعريّة، ومن صفحات الصحف إلى أروقة المحاكم، كما اتسع نطاقها ليشمل كل الغرب تقريباً من أقصى الساحل الغربيّ للولايات المتحدة، إلى شرقي أستراليا، مروراً بعواصم الغرب الثقافية، وحواضره الأكاديمية في برلين، وباريس، ولندن، وأمستردام، وبروكسل، حتى يمكننا الزّعم اليوم بأن الغرب يعيش في خضم أزمة ثقافية عميقة هزّت وجدانه، وأقلقت مزاجه، إذ وجد نفسه بعد سنوات من التمدد مرتاحاً على أريكة ناصر الحريّات، ومتعهد نشر الديمقراطيّات إلى شعوب العالم (المتخلفة) متلبساً بأسوأ ما يمكن أن يتخيله عقل عن أداء الديكتاتوريات المدان كما لو كان فصلاً في رواية جورج أورويل الشهيرة 1984: اقتحام الجامعات، واعتقال آلاف الطلاب المحتجين وأساتذتهم بعد تعرضهم لضرب وحشي، وطرد أساتذة جامعيين وفلاسفة بارزين من مناصبهم التعليمية لتوقيعهم قبل سنوات أحياناً على عرائض تؤيد تحقيق سلام عادل للفلسطينيين، وفرض أحكام قاسية بالسجن والغرامة لدى استخدام جمل كلامية محددة في العلن، وتورط صحف عالمية في نشر وتزوير تحقيقات حول مجريات الحرب على غزة، والكشف عن تعليمات مشددة للصحافيين بانتقاء حذر وموجه للتعبيرات التي يمكن أو لا يمكن تداولها عند الكتابة عن الأحداث، وسحب جوائز، أو وقف التمويل، أو إلغاء أنشطة، أو معارض بحسب تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي للأشخاص المستهدفين، سواء بعد اندلاع الحرب الحالية، أو حتى من سنوات طويلة، وغيرها.

أعراض أزمة الغرب هذه تجاوزت سريعاً حدود الانقسامات التقليدية في الديمقراطيات بين السلطات والمواطنين، وبين النخب والأكثريات، إلى شقاق عميق داخل النخب نفسها السياسية والأكاديمية والاقتصاديّة، وفي قلب مختلف الطبقات، والفئات العرقية والدينية –حتى بين اليهود الغربيين أنفسهم-، وبدأت تستدعي نوعاً من تباين مجتمعي يتجاوز صراعات الهويات الثقافية والجندرية التي سادت طوال عقد سابق، إلى تموضعات لا مألوفة في السياقات الغربيّة تبدأ من الموقف السياسي المعلن من (إسرائيل) مقابل الفلسطينيين، ولا تنتهي عند الخيارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى الفنيّة.

الذين تابعوا الانتخابات البلدية الأخيرة في بريطانيا مثلاً لاحظوا دون شك كيف ساهم موقف حكومة حزب المحافظين المؤيّد بشكل عام لـ(إسرائيل) في تكريس تراجع شعبية مرشحيه إلى مستويات متدنية تاريخياً في كثير من المواقع التي طالما عدت معاقل مغلقة لهم، وفي الوقت نفسه، حرمت حزب «العمال» المعارض من تحقيق المكاسب التي كان يمكن أن يحققها، وأيضاً بسبب موقف قياداته المعادية للفلسطينيين، وهو ما أتاح للعديد من المرشحين المستقلين وفي الأحزاب الثانوية -مثل الخضر، والليبراليين الديمقراطيين- تحقيق نتائج ممتازة في مجالس وبلديات عدة على برامج انتخابيّة أعلنت دون مواربة دعمها للشعب الفلسطيني. واعترف مديرو حملة حزب «العمال» بما أسموه «تأثير غزّة» على توجهات قطاعات عريضة من الناخبين البريطانيين، لا سيما أولئك المتحدرون من أصول مهاجرة مسلمين، وعرباً، وأفارقة، وغيرهم، وقدروا أن 20 في المائة من الأصوات قد تكون فقدت في البلديات التي فاز بها العمال بسبب مرتبط بمواقف قيادة الحزب من غزة، هذا سوى المجالس والبلديات التي انتهت بيد المستقلين والأحزاب الأخرى. وكان الحزب نفسه قد خسر أيضاً سيطرته على عدد من المجالس البلدية المهمة (مثل مدينة أكسفورد مثلاً) حتى قبل الانتخابات الأخيرة، بعدما استقال شاغلوها من عضوية حزب «العمال»، وأعلنوا استقلالهم عنه احتجاجاً على ما وصفوه بتواطؤ زعيم الحزب مع الدولة العبرية. ومع أن مراكز الأبحاث التي تراقب الانتخابات البريطانية قللت من المدى الممكن لتأثير غزة على الانتخابات البرلمانية العامة المقبلة في المملكة، التي ستجرى في أيّ وقت خلال الأشهر الستة المقبلة، فإنها توقعت أن ما يتراوح بين 6 - 10 مقاعد على الأقل قد تكون خارج قدرة الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمال) على الفوز، ولمصلحة مرشحين مستقلين، أو من أحزاب صغيرة أقرب لتأييد الفلسطينيين. وبحسب التوقعات الحالية، فإن البرلمان الذي قد يتمخض عن الانتخابات المقبلة سيكون على الأغلب معلقاً لا هيمنة كبيرة لحزب واحد عليه، ما يزيد من تأثير كتلة «غزة» على عمليات اتخاذ القرار في قلب المؤسسة التشريعية الأهم في النظام السياسي البريطاني، وبالتالي الخيارات الاقتصادية، والدّبلوماسية، والدّولية التي يمكن أن تقدم عليها الحكومة البريطانية مستقبلاً.

تَوَسُّع نطاق الأزمة إلى مساحة الخيارات العامة –كتلك الاقتصادية المتعلقة بماهية الاستثمار العام على سبيل المثال- أخذت شكلها الأوضح إلى الآن في مطالبات طلاب الجامعات المحتجين في الولايات المتحدة وبريطانيا وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها بسحب أموال وقفيات الجامعات التي يتم استثمارها في إسرائيل، أو في شركات تمدها بالأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام العسكريّ -وتقدر في الولايات المتحدة وحدها بـ500 مليار دولار. ويصر الطلاب أيضاً على أن تنفذ جامعاتهم مقاطعة أكاديمية للجامعات ومراكز الأبحاث في الدولة العبرية بوصفها شريكة في المجهود الحربي للجيش الإسرائيلي، وأن تلغي أي اتفاقات قائمة، سواء مباشرة بين الجامعات، أو عبر شراكات حكومية، وترتيبات أممية. ويجب ألا ننسى هنا أن هؤلاء الطلاب يدرسون في جامعات النخبة الغربية التي تجهز كوادر وقيادات المستقبل.

تقول لوري أندرسون، وهي فنانة موسيقيّة طليعيّة: إنها جاءت إلى برلين في بداية شبابها –في التسعينات من القرن الماضي-، لأن المدينة كانت في وقت ما منارة للحريّات، وحاضنة للتجارب الفنيّة، لكنها الآن تعتقد بأن المشهد انقلب كليّة بعد انطلاق الحرب على غزة. دُعيت أندرسون مؤخراً لتولي منصب أكاديمي مرموق في إحدى المدارس الفنية العريقة بألمانيا، قبل أن تستجوبها المدرسة حول أفكارها السياسيّة بسبب توقيعها -ضمن ستة عشر ألف فنان ومثقف وأكاديمي آخرين- على رسالة مفتوحة، عمرها عامان، نددت بسياسات الفصل العنصري التي تمارسها (إسرائيل) في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولذلك قررت أندرسون الانسحاب، والتخلي عن المنصب.

أندرسون، وخيبة أملها لما انتهت إليه الديمقراطية الغربيّة ليست سوى واحدة من ملايين الأشخاص في الغرب الذين تغيّرت نظرتهم إلى محيطهم الثقافي والاجتماعي بصفة جذريّة خلال أشهر قليلة. ومن المؤكد أن هذه التحولات العريضة ستكون لها مترتبات مباشرة، سياسياً واقتصادياً، وأخرى طويلة المدى بشأن المنطق الفلسفي في نظم الديمقراطيات الغربيّة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. إنها إرهاصات موت نظام ثقافي استنفد أغراضه، وتشكل صعب لنظام آخر جديد لا ندرك صورته بعد، لكننا، دون شك، سنرى كثيراً من الوحوش لحين اكتمال ولادته –كما كان يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.

اقرأ أيضاً


مقالات ذات صلة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

ثقافة وفنون المؤرخة أود دو كيروس

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن».

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون عباس محمود العقاد

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».