كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

يشبه مجسّمين في «متحف البحرين الوطني»

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
TT
20

كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق

من المواقع الأثرية المتعددة في جزيرة فيلكا، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة حُفظت في «متحف الكويت الوطني»، منها مجسّم صغير يمثّل كبشاً جاثياً، يماثل في تكوينه مجسّمين محفوظين في «متحف البحرين الوطني»، فقدَ كلّ منهما رأسه، مصدرهما قرية دراز الواقعة في الجزء الشمالي الغربي من الساحل البحريني. تعود هذه التماثيل الثلاثة إلى مرحلة سحيقة من التاريخ، كانت فيها فيلكا والبحرين حاضرتين من إقليم واسع عُرف باسم «دلمون»، شمل مناطق واسعة من الساحل الخليجي، وشكّل حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين ووادي السند.

تضمّ جزيرة فيلكا مواقع أثرية عدة؛ أشهرها موقع يُعرف بـ«تل سعد»، وآخر يُعرف بـ«تل سعيد». يقع الأول في القسم الجنوبي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر، ويضمّ ما تُعرف بـ«المدينة الدلمونية»، ويقع الثاني على بعد 300 متر إلى الشرق منه، ويعرف بـ«القلعة اليونانية». كشفت عن أسس هذه القلعة بعثة دنماركية خلال سلسلة حملات تنقيب نفذتها في نهاية الخمسينات، وتبيّن أن الموقع يحوي معبداً واصلت بعثة فرنسية استكشافه بشكل معمّق في 1983. في العام التالي، نشر العالمان الفرنسيان آني كوبي وجان فرنسوا سال تقريراً شاملاً، وثّقا فيه بأسلوب علمي دقيق مجمل القطع التي عُثر عليها في هذا المعبد الهلنستي خلال أعمال المسح والتنقيب. حوت هذه المجموعة من اللقى بضعة مجسّمات من الحجم الصغير؛ منها مجسّم صغير من الحجر الصابوني الرمادي اللون، يمثّل كبشاً جاثياً يبلغ طوله 6.4 سنتيمتر، وعرضه 2.4 سنتيمتر.

يحضر هذا الكبش في كتلة واحدة تخلو من أي فراغ، يبدو فيها جاثياً أرضاً على قوائمه المطوية. يغلب على ملامح هذه الحيوان الطابع التحويري المختزل. تظهر العين على شكل دائرة محفورة، ويتشكّل الأنف من كتلة مقوّسة ناتئة. تبدو القوائم شديدة الالتصاق بالجزء الأعلى من البدن، كما يبدو القرنان الناتئان ملتفّين كهلالين حول الوجه، ويظهر الذيل ملتفاً حول مؤخرة الجسد لجهة اليسار، وتعلو مساحة البدن شبكة من النقوش الطفيفة تجسّد على ما يبدو فروة الجلد. عُثر على هذا الكبش في المعبد الهلنستي، غير أنه بدا مجرّداً من أي طابع إغريقي، ممّا يوحي بأنه يعود إلى عهد سابق، أي إلى العهد الدلموني، وقد أعيد استخدامه لاحقاً في هذا الموقع، لكن وظيفته تبقى ملتبسة، والأرجح أنه كان مثبّتاً على أثر ضاع يصعب تحديد هويّته، كما توحي الثقوب المحفورة على السطح الأسفل للمجسّم.

يشبه هذا الكبش في تكوينه مجسّمين معروضين في «متحف البحرين الوطني»، عثرت عليهما البعثة الدنماركية في معبد يُعرف باسم «معبد بئر أم الصقور»، يقع في الجهة الشرقية من قرية دراز، في الجزء الشمالي الغربي من البحرين. تحوي هذه القرية آثاراً دلمونية تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، وتجاورها شرقاً قرية باربار التي تحوي ثلاثة معابد شُيّد الواحد منها فوق الآخر على مر السنين، وتمثّل أهمّ شواهد حضارة دلمون في البحرين. صُنع التمثالان من الحجر الجيري، ويبلغ طول كل منهما نحو 21 سنتيمتراً، وعرضه 31 سنتيمتراً، وقد عُثر عليهما مقطوعي الرأس للأسف، ويوحي تكوينهما بأّنهما يمثلان كذلك كبشين جاثيين في وضعية تماثل وضعية كبش فيلكا، كما يوحي موقعهما الأصلي في «معبد بئر أم الصقور» بأنّهما شكّلا جزءاً من عناصر هذا المعبد.

في دراسة حملت عنوان: «فنون النحت من حضارات الساحل الغربي للخليج العربي في العصور البرونزية إلى نهاية العصر الحديدي»، ذكر الباحث علاء الدين عبد المحسن شاهين هذين التمثالين، وربط بين بئر المياه العذبة وبعض العناصر المعمارية والدينية الخاصة بالمعبد، ورأى أن هذه العناصر تتصل «بالطقوس الدينية المرتبطة بعمليات التطهّر والاغتسال، حيث شُيّدت على فوهة البئر غرفة من الحجارة الجيدة، يجري الوصول إليها عن طريق دَرَج هابط أقيم على جوانبه بعض رموز العبادة المتمثّلة في الكبشين الجاثيين على قاعدتها عند راس الدرج، واللذين ربما كانا يشكلان جزءاً من زخرفة العمود، أو زخرفة الهيكل المشيّد في فترة مجد الحضارة الدلمونية».

نُسب كبشا البحرين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، كما تشهد اللقى الأثرية التي اكتشفت في الموقع وفي محيطه. ونُسب كبش فيلكا إلى الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. قورنت هذه المجسمات بقطع متعددة من بلاد ما بين النهرين، تعود إلى نواح مختلفة من هذه البلاد، كما قورنت بقطع من بلاد وادي السند، تعود إلى موقعَي «موهينجو دارو» و«هارابا» في جنوب باكستان. تأتي أغلب هذه القطع على شكل مجسمات من الحجم الصغير صُنعت من مواد مختلفة، ونقع على نماذج عديدة منها في مجمل المتاحف العالمية، حيث توصف غالباً بـ«التمائم».

تعود أقدم هذه النماذج على ما يبدو إلى جنوب وسط بلاد الرافدين، وهي من نتاج «عصر جمدة نصر»، أي إلى حقبة أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. يُمثّل هذا العصر ثقافة من حقبة ما قبل التاريخ، تسمّت باسم «تل جمدة نصر» في محافظة بابل، جنوب بلاد الرافدين، نسبة الى المخلفات الأثرية التي خرجت منه في العقود الأولى من القرن العشرين. وشملت هذه التسمية الجامعة مواقع أخرى في أنحاء جنوب وسط العراق؛ منها: أور، وأوروك، ونفر، وخفاجة، وأبو صلابيخ، وشوروباك، وتل العقير.

في هذا الميدان، يبرز خاتم أسطواني محفوظ في «متحف الشرق الأوسط» في برلين، مصدره مدينة «أوروك» التي تُعرف عربياً باسم «الوركاء». صُنع هذا الخاتم من الرخام والنحاس، ويعلوه مقبض نُحت على شكل كبش جاثٍ، يشبه في تكوينه إلى حد كبير كبش فيلكا. يستقرّ هذا الكبش جاثياً بثبات فوق كتلة أسطوانية تحمل نقشاً تصويرياً يمثل راعياً يُطعم قطيعاً من الغنم، وتعكس هذه الصورة الجامعة أهمية الدور الذي لعبته الماشية لدى الإنسان في «عصر جمدة نصر» الذي طبع بداية ظهور الحضارة السومرية.


مقالات ذات صلة

الأوبرا المصرية تحتفي بأديب «نوبل» نجيب محفوظ

يوميات الشرق احتفالات مصرية بنجيب محفوظ (وزارة الثقافة المصرية)

الأوبرا المصرية تحتفي بأديب «نوبل» نجيب محفوظ

تحت لافتة «محفوظ في القلب»، تحتفي الأوبرا المصرية بأديب «نوبل» نجيب محفوظ، عبر عدة فعاليات. بينها عرض أفلام تسجيلية عن مسيرته، ومعرض لفن الكاريكاتير حول محفوظ.

محمد الكفراوي (القاهرة )
ثقافة وفنون خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري

محمود الزيباوي ( محمود الزيباوي)
ثقافة وفنون الحكايات الشعبية... مخزون من الحكمة وتشويق يغري بالتأملات

الحكايات الشعبية... مخزون من الحكمة وتشويق يغري بالتأملات

عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة صدر كتاب «الحكايات الشعبية المصرية»، ضمن سلسلة «أطلس المأثورات الشعبية»، للشاعرة والباحثة بهية طِلب،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون كازو إيشيغورو

إنهم يسرقون الكلمات

تبذل بريطانيا وجهات أوروبيّة منذ بعض الوقت جهوداً لفرض حد أدنى من الحوكمة لمنع تغّول الآلة على الإبداع الإنساني.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT
20

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري الذي يشهد له الكم الهائل من اللقى التي خرجت منه في العقدين الأخيرين. تشكّل هذه اللقى مجموعات عدة مستقلة، منها مجموعة كبيرة من الأسلحة المعدنية تحوي خنجرين فريدين من نوعهما، لكل منهما مقبض منحوت على شكل فهد رابض يمدّ قائمتيه الأماميتين في الأفق.

تتبع منطقة ساروق الحديد إمارة دبي، وتجاور قرية الفقع بين مدينة دبي ومدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي. شرعت دائرة التراث العمراني والآثار التابعة لبلدية دبي في استكشاف هذا الموقع في عام 2002، بالتعاون مع عدد من البعثات الأجنبية، وأدت حملات التنقيب المتواصلة خلال السنوات التالية إلى العثور على مجموعات متنوعة من اللقى تعود إلى فترات زمنية تمتد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، منها مجموعة من الأختام، ومجموعة من الأواني الطينية، ومجموعة من الأدوات المعدنية.

تنقسم مجموعة الأدوات المعدنية إلى مجموعات عدة، أكبرها مجموعة من الأسلحة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تشابه في صناعتها وفي صياغتها أسلحة معاصرة لها خرجت من مواقع أثرية أخرى في الإمارات وفي المناطق المجاورة لها. يأخذ القسم الأكبر من هذه الأسلحة شكل خنجر من الحجم المتوسط، يتكوّن من مقبض بسيط ونصل مروّس. يبدو المقبض مجرّداً من الزينة في أغلب الأحيان، غير أن بعض النماذج تخرج عن هذا السياق، وتتميّز بنقش زخرفي متقن يشهد لأسلوب فني ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية كما يبدو.

يتجلّى هذا النقش الناتئ في خنجر من البرونز يتكون من مقبض يبلغ طوله 13 سنتيمتراً، ونصل طوله 16 سنتيمتراً. يتكوّن هذا النقش من مساحات زخرفية مختلفة، تشكّل معاً تأليفاً تجريدياً يجمع بين تقاسيم متناغمة. يعلو هذا التأليف شريط أفقي يحدّ قاعدة نصل الخنجر، تزيّنه سلسلة من الحبيبات المتلاصقة. يستقرّ هذا الشريط فوق مساحة مكعّبة تأخذ شكل تاج تزيّنه زخرفة حلزونية مكوّنة من مفردتين تشكيليتين معاكستين. في النصف الأسفل من هذا المقبض، تحضر مساحة مستطيلة تزينها سنابل منتصبة محوّرة هندسياً، تستقرّ في إطار يحدّه شريطان مزخرفان بشبكة من الخطوط الأفقية. ترتفع هذه الكتلة المتراصة فوق قاعدة أسطوانية، وتشكلّ هذه القاعدة الطرف الأسفل لهذا المقبض البديع.

يحضر هذا النقش بشكل مشابه في خنجر آخر يبلغ طول نصله الحديدي 13.7 سنتيمتر، وطول مقبضه البرونزي 9 سنتيمترات. ويظهر هذا التشابه من خلال السنابل المنتصبة في كتلة مستطيلة تشكّل عموداً يعلوه تاج يزينه تأليف حلزوني مماثل. يستقر هذا العمود فوق قاعدة أسطوانية مجرّدة، ويشكّل معها تكوين مقبض هذا الخنجر الذي تأكسد نصله الحديدي العريض.

يبرز في هذا الميدان خنجران فريدان من نوعهما يحمل كل منهما مقبضاً نُحت على شكل حيوان من فصيلة السنّوريّات، يمثّل كما يبدو فهداً رابضاً. يتشابه هذان الخنجران البرونزيان من حيث الحجم تقريباً، غير أنهما يختلفان في التكوين، ويظهر هذا التباين عند دراسة مقبض كل منهما؛ إذ يحمل أحدهما صورة فهد مجسّم، ويحمل الآخر صورة مزدوجة لهذا الفهد. يظهر الفهد المفرد في خنجر يبلغ طول نصله المقوّس بشكل طفيف 19.5 سنتيمتر، وطول مقبضه 14 سنتيمتراً. يتكوّن هذا المقبض من مجسّم على شكل فهد ينتصب عمودياً فوق قاعدة تأخذ شكل تاج تزينه زخرفة حلزونية، تماثل في تأليفها النسق المعتمد. يشكّل رأس هذا الفهد قمة المقبض، وملامحه واضحة، وتتمثّل بعينين دائريتين، وأنف شامخ، وشدقين مفتوحين. يرتفع هذا الرأس فوق عنق طويل مقوّس، يحدّه عقد من الحبيبات الناتئة، يفصل بينه وبين البدن. يتكوّن هذا البدن من صدر طويل مستطيل، تعلوه قائمتان أماميتان تمتدّان في الأفق، مع قدمين مقوّستين بشكل طفيف. الفخذان عريضتان، والذيل منسدل، وهو على شكل ذيل الأسد، ويتميز بخصلة عريضة تعلو طرفه، تنعقد هنا بشكل حلزوني.

يتكون الخنجر الآخر من نصل يبلغ طوله 16 سنتيمتراً، ومقبض على شكل قوس منفرج طوله 12.5 سنتيمتر. تتكرّر صورة الفهد، مع اختلاف في التفاصيل؛ إذ يغيب الطوق الذي يحيط بالعنق، وتستقيم القائمتان الأماميتان عمودياً، وتحضر في وسط العين نقطة غائرة تمثّل البؤبؤ. ينتصب هذا الفهد فوق فهد آخر يظهر بشكل معاكس له، ويشكّل رأس هذا الفهد المعاكس الطرف الأسفل للمقبض، وقاعدة للنصل المنبثق من بين فكّيه.

يمثّل هذان الخنجران حالة فنية استثنائية في ميدان مجموعات الأسلحة المتعددة التي خرجت من مواقع الإمارات الأثرية، ومواقع سلطنة عُمان التي شكّلت امتداداً لها، ويبرزان بطابعهما التصويري الذي يأخذ هنا شكل منحوتتين مجسّمتين. تعكس هاتان المنحوتتان أثر بلاد السند وبلاد الرافدين، غير أنّهما تتميّزان بطابع محلّي خاص، ويظهر هذا الطابع في قطع أخرى تنتمي كذلك إلى ما يُعرف تقليدياً بالفنون الصغرى.