كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

يشبه مجسّمين في «متحف البحرين الوطني»

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
TT

كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق

من المواقع الأثرية المتعددة في جزيرة فيلكا، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة حُفظت في «متحف الكويت الوطني»، منها مجسّم صغير يمثّل كبشاً جاثياً، يماثل في تكوينه مجسّمين محفوظين في «متحف البحرين الوطني»، فقدَ كلّ منهما رأسه، مصدرهما قرية دراز الواقعة في الجزء الشمالي الغربي من الساحل البحريني. تعود هذه التماثيل الثلاثة إلى مرحلة سحيقة من التاريخ، كانت فيها فيلكا والبحرين حاضرتين من إقليم واسع عُرف باسم «دلمون»، شمل مناطق واسعة من الساحل الخليجي، وشكّل حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين ووادي السند.

تضمّ جزيرة فيلكا مواقع أثرية عدة؛ أشهرها موقع يُعرف بـ«تل سعد»، وآخر يُعرف بـ«تل سعيد». يقع الأول في القسم الجنوبي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر، ويضمّ ما تُعرف بـ«المدينة الدلمونية»، ويقع الثاني على بعد 300 متر إلى الشرق منه، ويعرف بـ«القلعة اليونانية». كشفت عن أسس هذه القلعة بعثة دنماركية خلال سلسلة حملات تنقيب نفذتها في نهاية الخمسينات، وتبيّن أن الموقع يحوي معبداً واصلت بعثة فرنسية استكشافه بشكل معمّق في 1983. في العام التالي، نشر العالمان الفرنسيان آني كوبي وجان فرنسوا سال تقريراً شاملاً، وثّقا فيه بأسلوب علمي دقيق مجمل القطع التي عُثر عليها في هذا المعبد الهلنستي خلال أعمال المسح والتنقيب. حوت هذه المجموعة من اللقى بضعة مجسّمات من الحجم الصغير؛ منها مجسّم صغير من الحجر الصابوني الرمادي اللون، يمثّل كبشاً جاثياً يبلغ طوله 6.4 سنتيمتر، وعرضه 2.4 سنتيمتر.

يحضر هذا الكبش في كتلة واحدة تخلو من أي فراغ، يبدو فيها جاثياً أرضاً على قوائمه المطوية. يغلب على ملامح هذه الحيوان الطابع التحويري المختزل. تظهر العين على شكل دائرة محفورة، ويتشكّل الأنف من كتلة مقوّسة ناتئة. تبدو القوائم شديدة الالتصاق بالجزء الأعلى من البدن، كما يبدو القرنان الناتئان ملتفّين كهلالين حول الوجه، ويظهر الذيل ملتفاً حول مؤخرة الجسد لجهة اليسار، وتعلو مساحة البدن شبكة من النقوش الطفيفة تجسّد على ما يبدو فروة الجلد. عُثر على هذا الكبش في المعبد الهلنستي، غير أنه بدا مجرّداً من أي طابع إغريقي، ممّا يوحي بأنه يعود إلى عهد سابق، أي إلى العهد الدلموني، وقد أعيد استخدامه لاحقاً في هذا الموقع، لكن وظيفته تبقى ملتبسة، والأرجح أنه كان مثبّتاً على أثر ضاع يصعب تحديد هويّته، كما توحي الثقوب المحفورة على السطح الأسفل للمجسّم.

يشبه هذا الكبش في تكوينه مجسّمين معروضين في «متحف البحرين الوطني»، عثرت عليهما البعثة الدنماركية في معبد يُعرف باسم «معبد بئر أم الصقور»، يقع في الجهة الشرقية من قرية دراز، في الجزء الشمالي الغربي من البحرين. تحوي هذه القرية آثاراً دلمونية تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، وتجاورها شرقاً قرية باربار التي تحوي ثلاثة معابد شُيّد الواحد منها فوق الآخر على مر السنين، وتمثّل أهمّ شواهد حضارة دلمون في البحرين. صُنع التمثالان من الحجر الجيري، ويبلغ طول كل منهما نحو 21 سنتيمتراً، وعرضه 31 سنتيمتراً، وقد عُثر عليهما مقطوعي الرأس للأسف، ويوحي تكوينهما بأّنهما يمثلان كذلك كبشين جاثيين في وضعية تماثل وضعية كبش فيلكا، كما يوحي موقعهما الأصلي في «معبد بئر أم الصقور» بأنّهما شكّلا جزءاً من عناصر هذا المعبد.

في دراسة حملت عنوان: «فنون النحت من حضارات الساحل الغربي للخليج العربي في العصور البرونزية إلى نهاية العصر الحديدي»، ذكر الباحث علاء الدين عبد المحسن شاهين هذين التمثالين، وربط بين بئر المياه العذبة وبعض العناصر المعمارية والدينية الخاصة بالمعبد، ورأى أن هذه العناصر تتصل «بالطقوس الدينية المرتبطة بعمليات التطهّر والاغتسال، حيث شُيّدت على فوهة البئر غرفة من الحجارة الجيدة، يجري الوصول إليها عن طريق دَرَج هابط أقيم على جوانبه بعض رموز العبادة المتمثّلة في الكبشين الجاثيين على قاعدتها عند راس الدرج، واللذين ربما كانا يشكلان جزءاً من زخرفة العمود، أو زخرفة الهيكل المشيّد في فترة مجد الحضارة الدلمونية».

نُسب كبشا البحرين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، كما تشهد اللقى الأثرية التي اكتشفت في الموقع وفي محيطه. ونُسب كبش فيلكا إلى الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. قورنت هذه المجسمات بقطع متعددة من بلاد ما بين النهرين، تعود إلى نواح مختلفة من هذه البلاد، كما قورنت بقطع من بلاد وادي السند، تعود إلى موقعَي «موهينجو دارو» و«هارابا» في جنوب باكستان. تأتي أغلب هذه القطع على شكل مجسمات من الحجم الصغير صُنعت من مواد مختلفة، ونقع على نماذج عديدة منها في مجمل المتاحف العالمية، حيث توصف غالباً بـ«التمائم».

تعود أقدم هذه النماذج على ما يبدو إلى جنوب وسط بلاد الرافدين، وهي من نتاج «عصر جمدة نصر»، أي إلى حقبة أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. يُمثّل هذا العصر ثقافة من حقبة ما قبل التاريخ، تسمّت باسم «تل جمدة نصر» في محافظة بابل، جنوب بلاد الرافدين، نسبة الى المخلفات الأثرية التي خرجت منه في العقود الأولى من القرن العشرين. وشملت هذه التسمية الجامعة مواقع أخرى في أنحاء جنوب وسط العراق؛ منها: أور، وأوروك، ونفر، وخفاجة، وأبو صلابيخ، وشوروباك، وتل العقير.

في هذا الميدان، يبرز خاتم أسطواني محفوظ في «متحف الشرق الأوسط» في برلين، مصدره مدينة «أوروك» التي تُعرف عربياً باسم «الوركاء». صُنع هذا الخاتم من الرخام والنحاس، ويعلوه مقبض نُحت على شكل كبش جاثٍ، يشبه في تكوينه إلى حد كبير كبش فيلكا. يستقرّ هذا الكبش جاثياً بثبات فوق كتلة أسطوانية تحمل نقشاً تصويرياً يمثل راعياً يُطعم قطيعاً من الغنم، وتعكس هذه الصورة الجامعة أهمية الدور الذي لعبته الماشية لدى الإنسان في «عصر جمدة نصر» الذي طبع بداية ظهور الحضارة السومرية.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.