ضفدع فيلكا وسيط بين العالم الأرضي والعالم الآخر

طابعه الواقعي يتجلّى في تجسيم مفاصل أعضاء البدن

ضفدع فيلكا وسيط بين العالم الأرضي والعالم الآخر
TT

ضفدع فيلكا وسيط بين العالم الأرضي والعالم الآخر

ضفدع فيلكا وسيط بين العالم الأرضي والعالم الآخر

يحتفظ «متحف الكويت الوطني» بمجسّم برونزي صغير يمثّل ضفدعاً، مصدره جزيرة فيلكا التي تقع في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي. عُثر على هذا المجسّم خلال حملات التنقيب التي أجرتها بعثة دنماركية في هذه الجزيرة على مدى 5 سنوات في القرن الماضي، ويرى أهل الاختصاص أنه من نتاج الربع الأخير من الألفية الثانية قبل الميلاد، ويعود إلى حقبة عُرفت فيها فيلكا على الأرجح باسم «أغاروم»، واحتلّت موقعاً رئيسياً في بلاد دلمون التي امتدّت على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وشكلت حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين وبلاد وادي السند.

يعود هذا المجسّم المنمنم إلى العصر البرونزي المتوسّط، ولا نجد ما يماثله في النتاج المعدني التصويري الذي خرج من أطلال بلاد دلمون في الأزمنة الحديثة. يشهد هذا المجسّم على ما يبدو لتقليد حرفي لم تتضح بعد ملامحه الأثرية، يستوحي مواضيعه الأليفة من محيطه الطبيعي، ومنها الضفدع الذي يُعرف في كثير من واحات هذه المقاطعة من الخليج. يبلغ طول هذه القطعة البرونزية 6.3 سنتيمتر، وعرضها 3.6 سنتيمتر، وتصوّر ضفدعاً ممدّداً أرضاً، باسطاً قوائمه الأربع أفقياً. فقد هذا الضفدع قائمته الأمامية اليسرى، وطرف قائمته الخلفية اليسرى، كما فقد الجزء الأسفل من قائمته الخلفية اليمنى، غير أن كتلته التكوينية حافظت على بنيتها بشكل كامل. وتتميز هذه البنية بأسلوبها المتقن، وبطابعها الواقعي الذي يتجلّى في تجسيم مفاصل أعضاء البدن الرئيسية.

يبدو هذا الضفدع الصغير فريداً من نوعه في هذه الناحية من الخليج، غير أننا نجد كثيراً من المجسمات الصغيرة المشابهة في ميراث بلاد ما بين النهرين، وهي من الحجم المنمنم، ولا يتجاوز طولها اثنين من السنتيمترات. على سبيل المثل؛ يحتفظ المتحف البريطاني في لندن بضفدع من هذا الطراز مصنوع من حجر اللازورد، مصدره مدينة لارسا السومرية، في تل السنكرة الذي يقع في جنوب العراق. كما يحتفظ بقطعة أخرى مشابهة، مصدرها مدينة أور السومرية في تل المقير الذي يقع كذلك في جنوب العراق. ويحتفظ «متحف اللوفر» في باريس بضفدعة أخرى مصنوعة من هذا الحجر الأزرق، مصدرها تل أسمر في محافظة ديالى، شرق العراق. تعود هذه القطع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتتبع تقليداً فنياً جامعاً كما يبدو، وهي على الأرجح تمائم تعلّق على قلادات بغرض دفع البلاء عن أصحابها.

في المقابل؛ نقع على قطع أخرى مشابهة في الشكل والحجم، استُخدمت أداةً لقياس الوزن؛ منها قطعة مصنوعة من حجر العقيق محفوظة كذلك في المتحف البريطاني، وهي من الحقبة الأكادية، ومصدرها جنوب العراق، وقطعة من حجر الديوريت البركاني محفوظة في «متحف متروبوليتان» بنيويورك، تحمل نقشاً يشير إلى وظيفتها، وتتميز بحجمها؛ إذ يبلغ طولها 12.3 سنتيمتر، وهي من نتاج النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد.

في الميراث الأدبي الخاص ببلاد الرافدين، تتّضح خصائص الضفدع في مجموعة من النصوص يناهز عددها الأربعين. يغلب على 4 من هذه النصوص طابع الشعائر السحرية، وتبدو أشبه بوصفات ورقى عجيبة تعتمد التخييل والتلبيس، وينتمي نصان منها إلى الأدب الذي يُعرف بـ«أدب نامبوري»، وهو نوع خاص من هذه الطقوس السحرية، أنشئ لتجنب فأل الشر الذي تتحكم فيه القوى العليا. أما النصوص الأخرى، فتتبع ما يُمكن وصفه بـ«النمط الطبي العلمي»، وتتناول ما يُمكن استخدامه من بدن الضفدع في إعداد الأدوية ووسائل المعالجة من بعض الأمراض التي يتعرّض لها الإنسان. أقدم هذه النصوص يعود إلى عهد الدولة البابلية القديمة في النصف الثاني من الألفية الثانية قبل ميلاد المسيح، أما غالبيتها فتعود إلى زمن الإمبراطورية الأشورية الحديثة والإمبراطورية البابلية الحديثة في الألفية الأولى قبل الميلاد.

تُعدّ الضفادع من دواب الماء، وهي من الحيوان «الذي يعيش في الماء، ويبيض في الشطّ»، وهي كذلك «من الحيوان الذي يُخلق في أرحام الحيوان، وفي أرحام الأرضين إذا ألقحتها المياه»، كما نقل الجاحظ في موسوعته «الحيوان». وهي «من الخلق الذي لا عظام له»، وتُعرف بخفة لحم العجز الذي يصل العمود الفقري بالورك، كما تُعرف ببروز العينين وجحوظهما غاية الجحوظ. ينقسم حيوان الماء إلى مجموعتين، كما أشار القزويني في «عجائب المخلوقات»؛ فمنه «من ليس له رئة، كأنواع السمك، فإنّه لا يعيش إلا في الماء. ومنه ما له رئة كالضفدع، فإنه يجمع بين الماء والهواء». هكذا جمع الضفدع في تكوينه بين الماء والأرض، وبدت هذه الصفة في قول نقله الرواة ونسبوه إلى مسيلمة الكذاب: «يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّي ما تنقّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين».

في الميراث الأدبي الخاص ببلاد الرافدين تتّضح خصائص الضفدع في مجموعة من النصوص يناهز عددها الأربعين

في ميراث بلاد الرافدين، تميّز الضفدع باتصاله من جهة بالأرض، أي بالعالم البشري، واتصاله من جهة أخرى بالبحر الكوني الذي يتدفق من تحت الأرض، ويُعرف بالـ«أبسو». يجمع هذا الاسم بين «أب»؛ أي ماء، و«سو»؛ أي عمق، ويشير إلى عمق المياه الجوفية. من عمق هذه المياه الجوفية، يخرج الماء المنتعش المقدّس الذي يشكّل مصدراً لمياه البحيرات والبحار والأنهار والينابيع والجداول، وفق العقائد السومرية. من هنا، بدا الضفدع وسيطاً بين العالم الأرضي والعالم الآخر، وشكّل بدنه مادة لإخراج العلل من جسد المريض، ونقلها إلى خارج العالم الأرضي.

تمثّل هذه العقائد على الأرجح أساساً للتمائم السومرية اللازوردية التي تتّخذ من بدن الضفدع شكلاً لها، ويبدو ضفدع فيلكا البرونزي في تكوينه مشابهاً لهذه التمائم، غير أنه لا يماثلها؛ إذ يتفرّد بانبساطه وبامتداد قوائمه، على عكس الضفادع السومرية التي تظهر جاثمة كأنها في وضعية القرفصاء. يصعب تحديد وظيفة هذا الضفدع البرونزي، وكل ما يمكن قوله إنه يدخل بشكل مؤكد في خانة الحيوانات البحرية الكثيرة التي يتكرر ظهورها على الأختام المنقوشة التي خرج منها كمّ هائل من هذه الجزيرة الدلمونية التي تتبع في زمننا دولة الكويت.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».