الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

يُعَد من أهم المسارات الفلسفيّة في الغرب المعاصر

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي
TT

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، بتوسيع آفاق المعرفة الفلسفيّة واستكشاف التراث الفكري العالمي، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة»، التي تصدر مجلداتها العشرة تباعاً عن «دار صوفيا - الكويت»، لتشكل جسراً معرفيّاً ينير طريق القارئ العربي في واحد من أهم المسارات الفلسفيّة في الغرب المعاصر: الفلسفة المسيحيّة الحديثة. وهذا المسار يشكل محور المجلّد السابع من العشريّة، التي يشارك فيها باحثون متخصصون ويشرف عليها الباحث اللبناني مشير باسيل عون، إذ يقدّم المجلد للقراء، في سائر البلاد العربيّة، مدخلاً رصيناً إلى الفكر المسيحيّ الفلسفي، بعيداً عن الصور النمطيّة والقراءات السجاليّة، وبما ينسجم مع تطلّع القارئ العربي اليوم إلى فهم أعمق للآخر الدينيّ والثقافيّ.

يكتسب المجلّد السابع، الذي عرض للمرّة الأولى في معرض القاهرة الدولي للكتاب فبراير (شباط) الماضي، أهميّته من كونه يفتح نافذة على تيّار فكري ظلّ، رغم تأثيره الواسع في الفلسفة الأوروبيّة، مجهولاً أو ملتبساً لدى القارئ العربي. فالفلسفة المسيحيّة، كما تكشفها دراسات هذا الإصدار، ليست خطاباً وعظيّاً ولا دفاعاً مذهبيّاً، بل مشروع تفكير نقديّ يتداخل فيه العقل مع التجربة الروحيّة، ويتفاعل مع تحوّلات الفكر الغربي الكبرى في القرن العشرين: من الفينومينولوجيا إلى التفكيك، ومن الفلسفات الأنطولوجيّة إلى التأويلية.

وبذلك، يقدّم هذا العمل للقارئ العربي فرصة نادرة للتعرّف على كيفية إخضاع الإيمان المسيحيّ لمنهجية نقديّة فلسفيّة، وعلى تجربة فلاسفة سعوا إلى التوفيق بين العقل الحرّ والإيمان الروحيّ، وتقاليد المسيحيّة ومتطلبات الحداثة. وهذا الانفتاح المعرفي ليس مجرّد استعراض ثقافي، بل خطوة ضروريّة في بناء وعي فلسفيّ عربيّ قادر على الحوار مع الفكر العالمي، ومتحرّر من الانغلاقات العقائديّة التي تكبّل مسار النهضة الفكريّة.

وبفضل المجلّد السابع من العشريّة، يستطيع القارئ العربيّ أن يطّلع على الاجتهادات الفذّة التي أتى بها الفلاسفة الفرنسيّون المعاصرون في القرن العشرين، وقد انعقدت على التأمّل في مصائر المعنى المسيحيّ وشهادة الإيمان وحقائق العقيدة في قرائن التحوّلات الفكريّة الجسام التي اختبرها الفكر الفلسفيّ الغربيّ المعاصر. تجدر الإشارة، في البداية، إلى أنّ العشريّة الفلسفيّة الفريدة هذه تتناول حصيلة الإنتاج الفلسفيّ الفرنسيّ المعاصر في القرن العشرين حصراً، وتوزّعه على محاور جامعة أساسيّة: فلسفات البنيويّة والتفكيك والاختلاف (2021)، والفِنومِنولوجيا وتفرّعاتها والفِسارة الفلسفيّة (2022)، والفلسفات التفكّريّة والشخصانيّة والوجوديّة (2023)، وفلسفة تأريخ الفلسفة (2023)، والفلسفات الجماليّة (2025)، والفلسفات الهيغليّة والماركسيّة والفلسفات التاريخيّة التفكيكيّة (2026)، والفلسفات المسيحيّة (2025)، والفلسفات الاجتماعيّة والنفسيّة والتربويّة والأخلاقيّة (المجلّد الثامن)، والفلسفات السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة والبيئيّة والإعلاميّة (المجلّد التاسع)، وفلسفات الطبيعة والعلوم والإبّيستِمولوجيا (المجلّد العاشر).

ينطوي مجلّد الفلسفات المسيحيّة الفرنسيّة هذا على الدراسات المونوغرافيّة التي تناولت أبرز الفلاسفة الفرنسيّين الذين أعلنوا جهاراً انتماءهم الفكريّ إلى الخلفيّة الإيمانيّة المسيحيّة واستلهموا مبادئها وأصولها وقيَمها في بناء أنظومتهم الفلسفيّة المؤمنة. لذلك كان لا بدّ من الوقوف على طبيعة هذه الخلفيّة، والنظر في عناصر الخصوصيّة الفكريّة المسيحيّة التي وسمت أعمالهم. ذلك بأنّ بعضاً منهم انبرى يعلن إعلاناً صريحاً عن انتمائه المسيحيّ، وآثر بعضُهم الآخر الاكتفاء بالاختبار الإيمانيّ الشخصيّ الذاتيّ من غير الإفصاح عنه وربطه بمسار بناء الأنظومة الفلسفيّة الداخليّ الخاصّ.

من الموضوعات التي يعالجها المجلّد السابع هذا مسألةُ البُعد المسيحيّ الفكريّ الإيماني في أعمال الفلاسفة الفرنسيّين المسيحيّين المعاصرين، وقضيّةُ هويّة الفلسفة المسيحيّة. ذلك بأنّ السؤال الذي ما برح يقضّ مضاجع أهل الفكر إنّما يتحرّى إمكان الجمع بين الإيمان والعقل: هل يجوز أن نصف الفلسفة بالانتماء الدِّينيّ المسيحيّ؟ ما معنى أن تكون الفلسفة مسيحيّةً؟ وهل تُطيق الفلسفة أن تخضع للانتماء المسيحيّ؟ هل يصحّ الكلام على فلسفة مسيحيّة أو حتّى دينيّة على الإطلاق؟ هل نشأت حقّاً فلسفةٌ فرنسيّةٌ مسيحيّةٌ محض؟

وعليه، يمكن القول إنّ وظيفة هذا المجلّد أن يُعرّف الفلسفات الفرنسيّة المسيحيّة المعاصرة تعريفاً جامعاً شاملاً، بحيث يتّضح تنوّعُ مسالكها بتنوّع أصحاب النظريّات الفلسفيّة، وقد اجتهد المؤلِّفون المشاركون في تعيين مقام الإيمان المسيحيّ، سواءٌ في الوعي الفرديّ والجماعيّ أو في الأنظومة الثقافيّة السائدة. من أبرز الإشكاليّات التي تصدّت لها فصولُ هذا المجلّد تسويغُ قضايا المِتافيزياء الدِّينيّة في سياق الحدود التي ترسمها العقلانيّة النقديّة المعاصرة، لا سيّما في سياق ضوابط فلسفات اللغة والفلسفات التحليليّة وأيضاً الفِنومِنولوجيّة. وعلاوةً على ذلك، يجدر الالتفات إلى التفاعل الجدليّ بين الاتّجاهات الفلسفيّة الفرنسيّة المعاصرة التي يتنازعها حدّان: إمّا رفض إقحام الإيمان المسيحيّ في دائرة التفكّر الفلسفيّ، وإمّا تسويغ التفكّر النقديّ في قضايا المِتافيزياء الدِّينيّة بالاستناد إلى فرضيّة الرحابة الاختباريّة التي يتّصف بها الوعيُ الإنسانيُّ.

«الفلسفة المسيحيّة ليست خطاباً وعظيّاً ولا دفاعاً مذهبيّاً، بل مشروع تفكير نقديّ يتداخل فيه العقل مع التجربة الروحيّة»

من الخلاصات الخطيرة التي تُفضي إليها المقدّمة المسهبة التي وضعها مشير باسيل عون إعادةُ النظر في مفهوم الفلسفة المسيحيّة. ويقول عون: إذا قبلت المسيحيّة أن تحقّق دعوة المسيح الإخلائيّة على الصليب، فأخلت ذاتَها من قوامها التاريخيّ ومنظوريّتها المؤسّساتيّة وكثافتها العقائديّة، استطاعت أن تمنح العقلَ الفلسفيَّ الحرّيّةَ الضروريّةَ التي تتيح له أن يَنظر نظراً موضوعيّاً في الاختبار الجوّانيّ الروحيّ الإيمانيّ. حين تتحوّل المسيحيّةُ إلى خميرة الروح المنغلّة في تضاعيف الوعي الإنسانيّ، تستطيع الفلسفة أن تستلهم روحانيّة التضحية الذاتيّة والإخلاء الكيانيّ، فتتناول حقيقة المسيح في صميم جوهرها البذْليّ الأقصى. ومن ثمّ، لا قيام لفلسفةٍ مسيحيّةٍ معاصرةٍ ترفض التضحية بالذات من أجل نصرة العقل الحرّ الذي يتوق إلى الانعتاق من كلّ أصناف المنظوريّة التاريخيّة القاهرة. على قدر ما تتذكّر المسيحيّةُ أنّ المسيح أراد تحريرَ الناس من الدِّين - المؤسّسة والدِّين - العقيدة والدِّين - السلطان والدِّين - النظام، تتيح للعقل الفلسفيّ أن ينبسط في حقل الإيمان المسيحيّ يستصفي منه أبهى الفتوحات الروحيّة الراقية. ذلك بأنّ الفلسفة ترتاح إلى تدبّر حياة الخميرة الخفِرة المنحجبة المتواضعة، وتُنفِّرها الأجسامُ الصلبة، والعماراتُ الثقيلة، والبناءاتُ المرصوصة، والعقائديّاتُ المتطرّفةُ المتحجّرة، والتشريعاتُ القاهرة الخانقة. ما دامت الروح حقلَ الفلسفة المفضَّل، فإنّ مسيحيّة الروح أعذبُ على العقل الفلسفيّ من جميع أصناف المسيحيّة المتجبّرة التي اختبرها التاريخ، بحسب تعبير عون.

ومن ثمّ، تحتاج مجتمعات العالم العربيّ المعاصر إلى التفكرّ الفلسفيّ الحرّ هذا لكي تتحرّر من عقائديّتها المتصلّبة وتزمّتها الآيديولوجي المسرف. فالإيمان ينبغي أن يتحوّل في وعي الإنسان العربيّ المعاصر إلى اختبار جوّانيّ حرّ يحرّر الذات من أنانيّاتها الضيّقة وأحكامها الإقصائيّة، ويربطها بأفق روحيّ جليل يقوّم انحرافات الضمير ويهذّب الأخلاق رافعاً إيّاها إلى مصافّ القيَم الإنسانيّة السامية. ويقول عون: كلّما أعمل الإنسانُ عقلَه المستنير في أنظومته الدِّينيّة، اتّضح له أنّ التديّن الذي يسوّغ العنف والرياء والفساد إنّما ينتسب إلى ضروب العمى الآيديولوجي الذي يجب الانعتاق منه حتّى تستقيم الحياة الإنسانيّة في المجتمعات العربيّة المعاصرة.

إنّ المجلّد السابع من عشريّة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة لا يقدّم للقارئ العربي مادّة معرفيّة وحسب، بل يفتح أمامه فضاءً رحباً للتأمّل في إمكان قيام حوار جديد بين الإيمان والعقل، والتجربة الروحيّة والبحث الفلسفيّ. فالاطلاع على مسارات الفلسفة المسيحيّة المعاصرة يتيح للقارئ في العالم العربي، ولا سيّما في البلدان الخليجيّة التي تشهد نهضة علميّة وثقافيّة متسارعة، أن يكتشف كيف استطاع الفكر الغربيّ أن يعالج أسئلته الوجوديّة والدينيّة بجرأة نقديّة ومسؤوليّة روحيّة في آن واحد.

ولعلّ القيمة الأبرز لهذا العمل تكمن في قدرته على زحزحة التصوّرات الجامدة التي تربط بين الدين والانغلاق، إذ يكشف أن الإيمان، حين يتحرّر من ثقل المؤسّسة ومنطق السلطة، يصبح اختباراً حيّاً قادراً على إغناء البحث الفلسفيّ وتوسيع أفق الإنسان الأخلاقيّ والروحيّ. ومن هنا، يوفّر هذا المجلّد فرصة ثمينة للقارئ العربي كي يعيد التفكير في علاقته بنصوصه الدينيّة وبتراثه الفكريّ، بعيداً عن التشدّد الآيديولوجي والتفسيرات الموروثة التي تعيق نموّ العقل الحرّ.

إنّ الانخراط في هذا النوع من القراءات ليس رفاهاً ثقافيّاً، بل ضرورة معرفيّة للعبور نحو وعي فلسفيّ عربيّ أكثر نضجاً وانفتاحاً.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.