منذ اندلاع أحداث غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) والماكينة الإعلامية الغربية لا تتوقف عن دعمها الصريح للدولة العبرية. إن المتابع لأبرز منصات الإعلام الأميركي والأوروبي يلاحظ تصوير مجمل الفلسطينيين على أنهم إرهابيون أو داعمون للإرهاب فقط لأن قَدَرَهم أوقعهم في تلك البقعة الجغرافية المسماة غزة.
إن صعود نجم «حماس» داخل تلك البقعة الجغرافية الضيقة ناتج عن الحصار الإسرائيلي الذي ترعاه الدول العظمى، الذي رفع مستويات البطالة عند أهالي القطاع وجعلهم مرتهَنين لمساعدات «أونروا» وبقية المنظمات الدولية بدلاً من أن يجدوا فرصاً للعمل ودفع عجلة الإنتاج الاقتصادي في بلدهم. إن عملية الضغط المكشوفة التي تدفع بالغزاويين إلى الاختيار بين تلك الحياة البائسة والهجرة خارج وطنهم هي أبرز عوامل توفير بيئة السخط داخل القطاع.
ولأن الإنسان ابن بيئته، فإن المجتمع الساخط يلتفّ حول مَن يتحدث باسمه، حتى لو كان يتاجر بقضيته. لذلك استطاعت «حماس» -رغم فكرها الإخواني الإقصائي- احتكار المشهد في غزة بسبب عجز السلطة في رام الله عن تقديم حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية لأهالي القطاع. والقصة هنا تسبق فوز «حماس» بانتخابات 2006، فالسلطة المتمثلة بقيادات «فتح» كانت في الأصل عاجزة عن رعاية القطاع، ناهيك بممارساتها في إدارة الضفة؛ لذلك فإن سطوة «حماس» في القطاع نتيجة مفهومة لتلك الظروف.
نعود لانحياز الغرب ضد عموم الفلسطينيين، الذي يجب أن يُفهم أنه يتجاوز المواقف السياسية إلى كونه جزءاً من تكوين فكري لدى الغرب بأنه المخوّل بصياغة القيم والقواعد الأخلاقية لمجمل العالم. تلك المفاهيم يتم استبدالها حسب الحاجة وحسب مَن يفعل، وليس حسب الفعل. على سبيل المثال: فإن مصطلحات المقاومة المشروعة، والدفاع عن النفس، وحقوق المدنيين، تُستخدم لوصف الأوكرانيين الذين يواجهون الاعتداء الروسي، من دون أن يتم دمج الشعب الأوكراني مع حكومته التي بالغت في استفزاز موسكو إلى أن جرى غزو بلادهم. في المقابل فإن الأوصاف التي تُستخدم مع الفلسطينيين هي: الإرهاب (بدلاً من المقاومة المشروعة)، والاعتداء (بدلاً من الدفاع عن النفس)، وقطع الإمداد عن الإرهابيين (بدلاً من حقوق المدنيين).
لا نجد المنصات الإعلامية الكبرى مهتمة بتغطية الهتافات الإسرائيلية التي تتجاوز «حماس» وغيرها من الفصائل المسلحة الفلسطينية لتستهدف العرب كقومية والإسلام كمعتقد بأبشع العبارات. بل إن عدم الهتاف ضد المكون المسيحي الفلسطيني ناجم عن خشيتهم خسارة تعاطف الغرب، فعنصريتهم ضد «الآخر» المختلف وليس ضد فئة محددة.
في بداية الأحداث صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: «نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلَق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك». هذه اللغة التي تُجرّد الفلسطينيين -وعموم العرب- من صفة الإنسانية (dehumanization) هي الخطوة الأولى لشرعنة الممارسات غير الإنسانية في حقهم. وهذه اللغة ليست بالجديدة، فالخطاب الكولونيالي برمّته قائم على فكرة تجريد الآخر من إنسانيته حتى يستطيع المستعمر القيام بمهمته في نهب الأراضي والخيرات وممارسة العقاب الجماعي على من لا ينصاع لأوامر السيد.
إن الآلة الإعلامية التي تصوّر ما يجري في غزة اليوم على أن إسرائيل تدافع عن نفسها، هي نفسها التي قامت وما زالت تقوم بالتعبئة لصالح أوكرانيا ضد روسيا. ولنستذكر العبارات العنصرية التي بثّها الإعلام الأوروبي حول المأساة الأوكرانية بأنها مأساة «شعب يشبهنا في لون البشرة، والدين، والعادات الاجتماعية». بل إن تلك المنصات الإعلامية قالتها صراحةً إن أولئك الأوكرانيين «ليسوا من سوريا أو أفغانستان، بل هم أوروبيون مثلنا»، فهل ثمة خطاب أكثر فوقية من هذا؟
حتى العبارات الإيجابية التي صرّح بها الرئيس بايدن والزعماء الأوروبيون حول أهمية حماية المدنيين (من الجانبين) وحرصهم على سلامة أطفال غزة لا تخرج عن نطاق مقولة إدوارد سعيد «تسعى كلّ إمبراطورية لإخبار العالم بأن مهمتها ليست النهب والسيطرة، بل التثقيف والتحرير». فالخطاب الذي يتزعمه بايدن يربط سلامة أهل غزة بتحريرهم من سطوة «حماس»، التي لن تتحقق إلا بقذائف إسرائيل. بالتالي فإن مهمة إسرائيل تصب في مصلحة أهل غزة!
بعيداً عن صراع المصالح السياسية التي هي عُرضة للتبدل مع مرور الزمن، فإن الصراع الآيديولوجي في مرحلة ما بعد الكولونيالية يتجلى اليوم بوضوح في خطاب عنصري ضد الأعراق «الأقل إنسانية» من غيرها، في مشهد يذكّرنا بحوار في رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»، عندما سيطر الخنازير على المزرعة وأعلنوا أن «جميع الحيوانات متساوية، ولكنَّ بعضها متساوٍ أكثر من غيره».
إن واقع ما يحصل في غزة اليوم يعيدنا لمراجعة الكثير من الحسابات التي تتجاوز سرديات المظلومية العربية في الصراع مع إسرائيل أو أهمية السلام التدريجي؛ لنقرأ واقع الخطاب العنصري القائم على ثقافة تصنّف البشر إلى أنواع مختلفة في استحقاق صفة الإنسانية وما تتبعها من حقوق.