انتهت منذ أيام الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي استضافتها مدينة مراكش التي وصفها المؤرخ ابن خلكان في كتابه الأشهر «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان»، منذ أكثر من 7 قرون، بالمدينة فسيحة الأرجاء التي جمعت عذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة؛ وهي اليوم على نفس حالها المتفردة الجذابة، تتباهى بقدرتها على الاستضافة الحسنة لأهم الفعاليات العالمية الواحدة تلو الأخرى.
ورغم امتحان قاسٍ لأهلها وجوارها بزلزال عنيف منذ أسابيع فإنها نجحت بامتياز في القيام بما هو متوقع منها وأكثر لتيسير عمل المشاركين في الاجتماعات السنوية لمؤسستي «بريتون وودز» بما يقترب من 12 ألفاً من وفود 189 دولة تتمتع بعضوية المؤسستين يتقدمهم وزراء معنيون بالشؤون المالية والاقتصاد والتنمية، ومحافظو البنوك المركزية، مع مشاركة كثيفة لرواد القطاع الخاص والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام.
ولعل استضافة المغرب الناجحة للاجتماعات والوقوف على جهود تعافيها من تبعات الزلزال من الإيجابيات المحدودة في ظل الأجواء التعيسة التي يمر بها عالمنا الذي يشهد تنامياً لعوامل الاستقطاب والصراعات الدامية، خصوصاً بعد الذي استجد من كارثة إنسانية في غزة في عالم يعاني من فائض في الأزمات والكوارث وعجز في الثقة جعله منزوع الأوصال متخبطاً لا يكاد يفيق من أزمة إلا عاجلته أزمة أخرى بصدمات تزهق الأنفس، وتضيع مكتسبات النمو والتنمية.
تشخيص حالة الاقتصاد العالمي
- وصف صندوق النقد الدولي تطور الاقتصاد العالمي بالتحرك الأعرج بمعدلات نمو منخفضة تتراوح توقعاتها بين 3 في المائة في العام الحالي و2.9 في المائة في عام 2024 متراجعة عن معدل النمو المنخفض أصلاً عن مستهدفات التعافي في 2022 والذي بلغ 3.5 في المائة. وفي حين تماسك الاقتصاد الأميركي بدافع من زيادة الاستثمار والاستهلاك رجعت تقديرات النمو إلى أدنى مستوى في منطقة اليورو، وما زالت تشكل مخاطر انخفاض النمو في الصين تأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمي ليس فقط بحكم حجمه كثاني أكبر اقتصاد عالمياً، ولكن لشدة ارتباطه باقتصادات العالم من خلال قنوات التجارة كأكبر دولة تصديراً واستيراداً، وكذلك بفعل الاستثمار المباشر وتأثيراته في الأسواق العالمية. وفي حين تستقر تقديرات معدلات نمو البلدان النامية والأسواق الناشئة عند 4 في المائة فإن بلدان الشرق الأوسط التي ينتمي لها الكثير من البلدان العربية تتراوح بين 2 في المائة و3.4 في المائة في العامين الحالي والمقبل مع تفاوت شديد بين البلدان المختلفة وداخلها أيضاً بين الشرائح الداخلية المختلفة.
- أما معدلات التضخم فقد شهدت انخفاضاً في متوسطاتها العالمية من 9.2 في المائة في عام 2022 إلى 5.9 في المائة في العام الحالي مع احتمال انخفاضها إلى 4.8 في المائة في عام 2024، ورغم ذلك ترى البنوك المركزية الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا أن مهمتها في تخفيض التضخم لم تنتهِ بعد، وأن أكثر الدول لن تصل لهدفها قبل 2025، بما يفسر مقولة «أعلى لفترة أطول» في ما يتعلق بأسعار الفائدة. ويشكل التعامل مع تطورات أسعار قطاع الخدمات والسوق العقارية والسلع الرئيسية وأحوال سوق العمل في المجمل محددات صياغة السياسة النقدية في المرحلة المقبلة.
وصفات جاهزة
من المؤسف أن ما تتصوره المؤسسات الدولية عن إمكانية التعافي من إجراءات فنية في وصفات جاهزة لا تساندها محددات الاقتصاد السياسي وحالة الاستقطاب والتفكك في أوصال الاقتصاد العالمي، فهي تقترح إعادة بناء مخففات للصدمات للمالية العامة للتوقّي ضد المخاطر، ولكنها لم تُوَفِّ الأمر حقه في ما يتعلق بكيفية تحقيق ذلك في بلدان تبتلع خدمة الديون الخارجية أكثر مما توفره للإنفاق على التعليم والرعاية الصحية معاً! كما أنها تنادي بتخفيض عجز الموازنات في وقت ترفع أسعار الفائدة فيه تكلفة الديون العامة الخارجية والمحلية، وترتفع فيه النفقات بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتنخفض الإيرادات بسبب تراجع معدلات النمو الاقتصادي وصافي إيرادات الشركات.
كما تناشد المؤسسات الدولية اتباع أسس التعاون الدولي لدفع النمو، وهي تدرك أن هذا التعاون المنشود أصبح متهافتاً بطيئاً قليل التمويل، كما أن إجراءات بعض الدول المتقدمة في ما يتعلق بالمبادرات الخضراء تتنافى عملياً مع قواعد التجارة الحرة لمنظمة التجارة العالمية، وتزيد مخاطر وتكلفة الاستثمار في التحول الأخضر في البلدان النامية التي تقع بين شقي رحى الدعم والتدابير الحمائية. وفي حين يختلف بعض الاقتصاديين مثل داني رودريك وبنيلوبي غولدبرغ، يرى الأول أن النزاعات الجيوسياسية هي التي تسببت في النزعات الحمائية، في حين يرى الثاني أن الإجراءات الحمائية هي التي أشعلت الصراعات الجيوسياسية، ولكننا في حقيقة الأمر في عالم أمسى يفقد أوصاله الواحد بعد الآخر بين الصراعات الجيوسياسية والحمائية التجارية والاقتصادية.
وفي ما يتعلق بمنطقتنا العربية ترددت اقتراحات منها ما لخصته مديرة صندوق النقد الدولي، ونُشر بعد الاجتماع مع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية: من مساندة القطاع الخاص، وإصلاح نظم الضمان والحماية الاجتماعية، وإتاحة الفرص للشباب، وإزالة الحواجز أمام مشاركة المرأة، وجعل الاستثمار الأخضر قاطرة للنمو، وتوليد فرص العمل. وهذه في مجملها اقتراحات متعارف عليها تنادي بها وتعمل عليها كثير من البلدان، ولكن لتحقيقها متطلبات خاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، تبدأ بدرء المفاسد قبل جلب المنافع: ومن أهم المفاسد ما استشرى من ديون تستدعي المعالجة حتى لا تتفاقم من مشكلات في السيولة لتعثر حرج.
ومن المفاسد مخاطر تداعيات الآليات الأوروبية لمعالجة التجارة عبر الحدود المعروفة اختصاراً بـ«سي بام»، وكذلك النتائج السلبية للإجراءات الحمائية للسياسة الصناعية الجديدة في بلدان متقدمة كالولايات المتحدة. ومن المفاسد تسرُب التدفقات المالية غير المشروعة بتواطؤ مراكز مالية دولية. وهذا كله مع كثير غيره جعل صافي التدفقات المالية لبلدان نامية يتراوح بين الصفر وأرقام سلبية. وفي هذا تفصيلات مريرة نعالجها في مقال مقبل.