تصعب مقاربة الواقع المعاصر، الكثير التعقيد، بمعزل عن مجموعة من المفاهيم، التي تتعذر من دونها الإضاءة المنهجية عليه. يمكن المرء الموافقة على هذه المفاهيم، أو نقدها، لكن لا بد له من إدراكها، كي لا يظل تائهاً في تتبع مجريات الحاضر.
طالما فوجئت في حواراتي مع الكثير من المثقفين، بضعف اطلاعهم على النهضة الأوروبية، نهضة النصف الثاني من القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وعدم توقفهم عند معناها ودورها الأساسي في مقاربة الواقع الراهن. تلك النهضة التي حققت الانتقال من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، والتي يتعثر إدراك العالم الحديث والمعاصر في منأى عنها. يصعب في سطور قليلة اختصار ذلك التحوّل الكبير، الذي بدأ في الفن، في الرسم والنحت والعمارة، انطلاقا من فلورنسا، عاصمة توسكانا، قبل أن يمتد شيئاً فشيئاً إلى كافة البنى العقلية والفكرية والروحية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية في أوروبا، محدثاً لدى النخب، ومن ثم لدى الشعوب، تحولات جذرية في رؤية الذات والكون، ما أتاح للأمم الأوروبية، ولامتداداتها في شمال القارة الأميركية وأوقيانيا، هذه الهيمنة الطويلة الأمد على مقدرات العالم.
قبل تلك النهضة، كانت الثقافة المسيحية التقليدية مسيطرة بالكامل على نحو ألف عام من القرون الوسطى الأوروبية. كانت الإرادة الإلهية هي محور التاريخ ومحرّكه الأوحد، ولم يكن للإنسان أي دور في مسار الأحداث. وكان هدف الوجود البشري الأسمى كسب الحياة الأبدية، على حساب الحياة الأرضية الزائلة، وعلى حساب ضبط الجسد، «مصدر الشرور»، وقمعه. وكان «الكتاب المقدس»، في عهديه القديم والجديد، المرجع الأوحد لتفسير التاريخ والكون.
لم تلغ النهضة الأوروبية هذا الحيّز الديني. لكنها رسمت إلى جانبه، أكثر فأكثر، حيّزاً آخر مختلفاً، يولي الإنسان دوره في صنع التاريخ، وفي إحداث التحول والتقدم، كما يتيح إطلاق العقل النقدي، ويعيد الاعتبار للجسد، وللحياة والسعادة الأرضيتين.
في هذا السياق ظهرت الطباعة (التي منعتها السلطنة العثمانية لنحو قرنين من الزمن)، وأضعف الانشقاق البروتستانتي سلطة روما، وتم اكتشاف القارة الأميركية، واتسعت حركة التبادل التجاري عبر المدن التي أمتها جماعات آتية من الأرياف، تنتمي إلى طبقة الشعب، وتطمح إلى التحرر من نمط الحياة الزراعية والانخراط في الحياة التجارية. هكذا نمت البرجوازية (التي تعني حرفياً «سكان المدن» الصغيرة)، التي سيكون لها دورها الكبير في المسار الجديد، بحثاً عن مكانتها المفقودة بين الطبقات التراتبية الراسخة الثلاث: رجال الدين، والنبلاء، والشعب. هكذا، من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، توالت في أوروبا التحولات الكبرى التي كرّست الواقع الحديث: فكر التنوير، الثورة العلمية والتكنولوجية، الثورة الصناعية، الثورة الفردية، الثورة الفرنسية الكبرى.
كيف يؤثر إدراكنا هذه الظواهر البالغة الأهمية، تأثيراً عملياً، على مقاربتنا الواقع المعاصر؟ هو يؤثر بأشكال كثيرة بارزة، لا مجال في هذه المقالة للإحاطة بها كلها. سنتوقف هنا عند أحدها، على سبيل المثال لا الحصر:
ثمة مفهوم أساسي شبه مفقود في التحاليل الشائعة للواقع المعاصر، هو مفهوم التمييز بين مجتمع الأفراد ومجتمع الجماعات، الذي لا يمكن فهم الواقع الحالي بمعزل عنه، والذي تتوجب العودة إلى الثورة الفردية في أوروبا لإدراكه. لقد استطاعت الثورة الفردية، في ظلّ التحولات الصناعية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من مطلع القرن الثامن عشر إلى مطلع القرن العشرين، تفكيك الجماعات بأشكالها المتوارثة، وتحويلها إلى أفراد/مواطنين، من رجال ونساء على حد سواء، مستقلين ومندمجين في شعب واحد وفي دولة وطنية واحدة. تلك هي مجتمعات الأفراد التي تكرّست في مختلف أنحاء العالم الصناعي، في غرب أوروبا وشرقها، وفي أميركا الشمالية وأستراليا. وفي موازاة مجتمعات الأفراد، هناك مجتمعات الجماعات التي ما زالت سائدة في معظم أقطار العالم. فعلى سبيل المثال، لم تستطع كافة الأنظمة المتوالية على المشرق والمغرب العربيين، على مدى مائة عام، منذ سقوط السلطنة العثمانية حتى اليوم، تحقيق الانتقال التاريخي من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد/المواطنين. بل على العكس من ذلك، قويت الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وغيرها في هذه المنطقة الشاسعة، واشتد عصبها أكثر. وكذلك هي الحال في مناطق عديدة أخرى من العالم.
إذا لم ندرك الفارق العميق بين مجتمع الأفراد ومجتمع الجماعات، كيف لنا أن نحلل الواقع المعاصر؟ فما ينطبق على مجتمع الأفراد من تشخيص للمشكلات، ومن توصيف للحلول، لا ينطبق على مجتمع الجماعات. والمصطلحات المستعملة هنا لا تصح حكماً هناك. لذلك تطالعنا هذه الفوضى الفكرية العارمة في مفاهيم الإصلاح في الكثير من مجتمعات الجماعات، التي تتصرف نخبها المثقفة، وطلائعها التغييرية، وكأنها مقيمة في مجتمعات الأفراد. الوضع اللبناني الراهن هو مثال واضح، من بين أمثلة كثيرة أخرى، على ذلك. ومن أسباب هذه المتاهة، أن معظم المصطلحات التغييرية المتداولة في مجتمعات الجماعات، واردة إليها من مجتمعات الأفراد في العالم الصناعي الأوروبي الهوية أو الجذور. وهي تصحّ على مجتمع الأفراد وليس على مجتمع الجماعات، كـ«الديمقراطية العددية» مثلاً، التي سرعان ما تتحول في عالم الجماعات إلى ديمقراطية الـ99 بالمائة المزيفة، لصالح الجماعة الحاكمة وقائدها الأوحد، وكـ«العلمنة» التي غالباً ما تستعملها الجماعة الحاكمة كقناع مزيّف لبسط هيمنتها الفئوية على سائر الجماعات المغلوبة على أمرها، و«الاشتراكية العلمية» التي تنسب نفسها إليها أنظمة متسمة بالتخلف والتسلط والعوز، والعديد من المصطلحات المماثلة الأخرى.
ولا تقتصر هذه المتاهة على النخب في مجتمع الجماعات وما يرد إليها من مصطلحات، بل تطال أيضا النخب في مجتمعات الأفراد المتقدمة، وطبيعة نظرتها إلى مجتمع الجماعات. فالكثير من المقالات والدراسات السياسية والسوسيولوجية، الصادرة عن هيئات أكاديمية مرموقة في الغرب، تنظر إلى المشكلات والحلول في مجتمع الجماعات، هنا وهناك في العالم، بمنظار مجتمع الأفراد الذي تنتمي إليه، فتفقد بذلك قيمتها، وتساهم بدورها في تعزيز المتاهة الفكرية، والدوران في الحلقة المفرغة نفسها.