حتى وقت قريب، كنا نعتقد أن علاقة الرياض وواشنطن على حافة الانهيار. حديث بايدن عن الدولة «المنبوذة»، ومصافحة القبضة، والتراشق بعد خفض الإنتاج، والتهديد بتقييم العلاقات، والبيان السعودي الشهير.
كل هذه أصبحت أخباراً قديمة، والعلاقة أخذت استدارة كاملة، وعادت ربما إلى مستوى أفضل من العلاقة مع إدارة الرئيس ترمب التي توصَف بالذهبية بين البلدين.
ومع هذا لم نسمع في وقت إدارة ترمب عن اتفاقية دفاعية سعودية أميركية على غرار الاتفاقية مع كوريا الجنوبية واليابان، وفي العاصمة الهندية تصافَح ولي العهد السعودي والرئيس بايدن، وكان الإعلان عن الممر الاقتصادي الذي يقول الخبراء إنه قد يكون أكبر مشاريع هذا القرن.
ولكن كيف تغيرت العلاقة؟ وما الدوافع خلف ذلك؟
في إجابة ولي العهد السعودي بمقابلة «فوكس نيوز» شرحٌ لهذا التغير، حيث قال إن الشيء الوحيد الذي لا يتغير في السياسة هو التغير ذاته، وكل واحد منهم يريد أن يخدم مصالح أمته. الخلافات السابقة، ورغم تحولها إلى حديث المجالس ووسائل الإعلام، ليست شخصية، بل خلاف على المصالح فقط. وهكذا يفعل الساسة ورجال الدولة، حيث يملكون مهارة انتزاع ذواتهم ومشاعرهم من الخلافات، ويتصافحون بعد الحروب والاشتباكات وكأن شيئاً لم يكن، لأنهم يدركون أنه لا يوجد شيء شخصي، ولكن هذا ما تفرضه عليهم أدوارهم كقادة.
ولكن بالطبع هناك سبب واقعي آخر أفضى إلى هذا الاعتدال، وهو المخاوف الأميركية من أن تذهب السعودية أكثر إلى الصين؛ ما يزيد نفوذ بكين في المنطقة، وتخسر واشنطن واحداً من أهم حلفائها. وهكذا رأينا لغة إدارة بايدن القاسية والغاضبة تتراجع حتى عادت إلى اللغة الدبلوماسية المعتادة.
ولو عدنا بالذاكرة، فإن بايدن مثل كل الساسة الأميركيين، استخدم السعودية في الموسم الانتخابي وسيلةً لكسب الشعبية، كما يفعلون مع الصين وروسيا، وتحدث عن النبذ، وبعد أن وصل للبيت الأبيض لم تتغير كثيراً هذه اللغة بسبب مغازلة بايدن للجناح المتشدد في الحزب الديمقراطي، الذين ذكَّروه دائماً بوعوده الانتخابية ومواقفه الحقوقية، وهددوه بسحب دعمهم. في ظل هذا المزاج المحتد والمحاصر نفهم مواقف بايدن الذي كان ينتظر أن يصطدم بالواقع، الذي لا يمكن هزيمته حتى يظهر بصورة أكثر واقعية ويخفف من تصلب مناصريه، ويقدم على خطوات أكثر ليونة دون أن يخسر دعم مؤيديه. وهذا ما حدث في قمة جدة، عندما عاد طالباً رفع الإنتاج حتى يخفف على الأميركيين ارتفاع أسعار الطاقة، ورغم أن السعودية لم تخفض، فإن الأخبار التي حملها لقاعدته الشعبية قالت العكس، حتى يسجل لنفسه مكاسب ويخفف من ضغط خصومه، ويذهب أكثر في خط أكثر واقعية.
وإذا فكرنا بطريقة إدارة بايدن في السياسة الخارجية وطريقة تفكيره، فإنه ربما من آخر جيل الساسة الأميركيين المؤمنين بالنظام الليبرالي أو العالم الذي صممته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، ولهذا يدعم بلا هوادة أو تردد الأوكرانيين ضد الروس في حربهم، لأنه يعتقد أن هزيمتهم تعني انهيار النظام العالمي الذي يؤمن به ويدافع عنه ويُعد أحد مبادئه السياسية.
ولكن كيف يُفسر موقف بايدن السابق المعادي للسعودية، رغم أن تحالفها الوثيق مع واشنطن كان أحد أسباب تماسك النظام العالمي في منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط، وصده الهجمات الشيوعية والقومية والجماعات الإرهابية، وصعدت فيها إيران، إحدى أكبر الدول المعادية لواشنطن، وما تمثله. موقف متناقض يدعم الاستقرار في أوروبا، ويدفع إلى الفوضى في المنطقة بإضعاف الحليف الأقوى؟! التفسير الوحيد لكل ذلك أن إدارة بايدن كانت واقعة تحت التخدير الانتخابي ومرتعشة من المزايدات الحزبية، واندفعت لاتخاذ مواقف معارضة لإدارة ترمب، ولكنها اصطدمت بالواقع، واتخذت خط مسار مختلفاً ومعاكساً تماماً، وتمثل الاتفاقية الدفاعية والممر الاقتصادي إحدى الركائز الجديدة لعلاقة أقوى بين البلدين، وأكثر استقراراً في المنطقة. الآن بايدن منسجم مع بايدن، واللغة التي يتحدث بها واحدة في الرياض وفي كييف.
والعلاقة القوية بين الرياض وواشنطن دائماً أمر جيد في منطقتنا، لأنها الدعامة الصلبة في بقعة تكتظ فيها الدول الفاشلة والأنظمة المارقة والجماعات والميليشيات المتطرفة. وقد حاول بن لادن، كما قال ولي العهد السعودي، في حواره، الإيقاع بين البلدين ولم ينجح، بل حدث العكس؛ فنحن على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة.