إذا حاولنا المقارنة بين القوى التي يمكن وصفها بالقوى العظمى، وكان الوصف في الماضي ينطبق على قوتين عظميين هما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي، لا بد أن نتذكر أن الوضع قد تغير اليوم. هنالك قوة عظمى ثالثة، هي الصين الشعبية، في النظام العالمي الجديد الذي لم يتبلور كلياً بعد، وبالتالي لم يستقر فيما يتعلق بقواعده وطبيعة وأنماط تحالفاته، والعلاقات بين قواه الرئيسية: النظام الذي يعرف بنظام ما «بعد الحرب الباردة».
والبعض يرى أن الصين الشعبية حلت مكان روسيا في هذا الموقع، فيما النقاش ما زال مستمراً حول شكل النظام العالمي الذي سيستقر. فهل يكون النظام ثلاثي القطبية، وهو المرجح، أم ثنائي القطبية، حيث يرى البعض أن بكين ستحل مكان موسكو في هذا الموقع.
وإذا نظرنا إلى لعبة التنافس بين هذه القوى وبناء النفوذ أو تعزيزه في الشرق الأوسط نستطيع أن نصف الولايات المتحدة بأنها القوة المترددة في سياساتها، الأمر الذي أصاب مصداقيتها بالكثير من الضرر، والقوة المتراجعة في موقعها ونفوذها مقارنة مع الماضي القريب والبعيد. ويظهر ذلك في الفتور النسبي الذي أصاب ما عرف بعلاقاتها الخاصة في المنطقة. كما نستطيع أن نصف روسيا الاتحادية بالقوة العائدة كوريث لدور الاتحاد السوفياتي، التي أعادت بناء هذا الدور، آخذة بالطبع بعين الاعتبار المتغيرات التي حصلت على جميع المستويات الدولية وغيرها في مختلف مجالات عناصر القوة، وما يعرف بقواعد «لعبة الأمم». أما الصين الشعبية فيمكن وصفها بالقوة القادمة بدينامية كبرى ومقاربة شاملة تقوم على البراغماتية في عملية بناء علاقات جديدة من جهة، وتعزيز علاقات قائمة وإعطائها أبعاداً مختلفة من الاقتصاد، استثماراً وتجارة إلى السياسة، وإلى التعاون المتعدد الأبعاد والأوجه من جهة أخرى.
إذا قارنا في العلاقات الإقليمية بين الصين الشعبية والولايات المتحدة نرى أن الأولى تمتلك علاقات، أو تحديداً تمكنت في فترة قصيرة نسبياً، عبر «مبادرة الحزام والطريق» ودبلوماسية بكين الناشطة، من إقامة علاقات متوازنة إلى درجة كبيرة مع مختلف القوى الرئيسية في المنطقة: القوى العربية وإيران وتركيا وإسرائيل. الأمر الذي تفتقده واشنطن.
فإلى جانب تراجع الاهتمام في الشرق الأوسط والتوجه نحو منطقة الباسفيك، كما صرحت واشنطن مراراً، ولو أن الاهتمام تفرضه التطورات ولا يمكن إضعافه دون دفع ثمن لذلك، فإن ما يزيد من إضعاف الموقف الأميركي عناصر ثلاثة: أول هذه العناصر الانحياز الكلي لإسرائيل مع تداعيات ذلك على علاقاتها ودورها في المنطقة، وكذلك التوتر الأميركي - الإيراني رغم عودة الوساطة بين الطرفين، خاصة حول الشأن النووي، وأخيراً بقاء العنصر الآيديولوجي (الديمقراطي الليبرالي) الذي تلجأ إليه واشنطن في خطابها بشكل انتقائي بين الحين والآخر تجاه بعض الدول الصديقة لها لاعتبارات عديدة.
وعلى صعيد آخر، سبقت الصين الشعبية روسيا الاتحادية في انخراطها الناشط في المنطقة، رغم أن الأخيرة تمتلك علاقات شبيهة بالحالة الصينية ولكن دون الإمكانات الاقتصادية التي وظفتها وتوظفها بكين في هذا المجال. أضف أن الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، الذي هو من أولوية الأولويات في الأمن القومي لموسكو وصراعها مع الحلف الغربي، قد انعكس سلباً بعض الشيء على قدرة انخراطها الناشط في المنطقة. ولا يعني ذلك تراجعاً للدور الروسي في الإقليم، خاصة في قضايا تحتل مكانة أولية في الشأن الأمني الاستراتيجي من حيث تعقيداتها وحجم تداعياتها على صعيد المنطقة.
أمثلة ثلاثة نشير إليها للدلالة على الدور الصيني الجديد في المنطقة: أولاً، دبلوماسية القمم التي استضافتها المملكة العربية السعودية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، التي شهدت 3 قمم: «سعودية صينية، وخليجية صينية، وعربية صينية»، والتي أسست لمقاربات جديدة في العلاقات الشاملة، كما عززت علاقات قائمة. ثانياً، الدور الصيني في استضافة ورعاية المصالحة السعودية - الإيرانية التي تؤسس لعلاقات مختلفة في المنطقة ولمسار جديد يجب البناء عليه. استضافة عكست العلاقات الخاصة التي تربط بكين بالقوتين الإقليميتين. ثالثاً، مؤتمر «الدورة العاشرة» لرجال الأعمال العرب والصينيين في الرياض يومي 11 و12 من هذا الشهر، الذي شهد نقلة نوعية في العلاقات، من حيث طبيعة وحجم الاتفاقيات التي تم التوصل إليها، والتي وصلت إلى حدود 10 مليارات دولار. الأمر الذي يعكس نوع وحجم التعاون الاقتصادي المتعدد الأوجه القائم والقادم في العلاقات العربية الصينية. أضف إلى ذلك، رسالة هامة حملتها القمة الصينية - الفلسطينية التي انعقدت في 14 من هذا الشهر في بكين، حول استعداد الصين الشعبية للعب دور توسطي للمساعدة في جهود السلام... رسالة حول رغبة بكين في الانخراط في دبلوماسية التسوية لهذا النزاع الذي يعيش الجمود الدبلوماسي الخطير في تداعياته مع أعلى درجات التوتر السياسي، وكذلك على الأرض بسبب السياسات الإسرائيلية الناشطة لاستكمال تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة، والرافضة كلياً لإعادة إحياء عملية السلام حسب المرجعيات الأممية المعروفة.
إن الدور الصيني الناشط والمتنوع في علاقاته ومضامينه، كما أشرنا سابقاً في الشرق الأوسط، الذي يعزز الوجود الصيني في منطقة تحتل أهمية استراتيجية خاصة أيضاً على المستوى الدولي بسبب موقع المنطقة كنقطة تواصل بين القارات الثلاث الآسيوية والأوروبية والأفريقية، يؤشر بشكل كبير أيضاً على مكانة الصين الشعبية التي تتكرس كل يوم على مستوى النظام العالمي الذي يتشكل.