ذكرت في الأسبوع الماضي أن «علاقة المسلمين بالأمم الأخرى واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم». واطلعت قبل أيام على تغريدات للأستاذ محمد المحمود في الموضوع ذاته. عبارات قصيرة، لكنها - مثل جميع كتابات المحمود الأخرى - عميقة ومباشرة، تضع الأصبع على الجرح، من دون تمهيد أو مجاملة.
لاحظ المحمود أن نقد الذات تقليد راسخ في الثقافة الغربية، وأنه يصنف كشرط للتطور. النقد الذاتي يعني تشجيع البحث عن العيوب والمشكلات، كشفها لعامة الناس، ثم استنهاض الرغبة في المجادلة والمعالجة، وصولاً إلى اكتشاف العلاج. لقد تسارع التقدم في الحضارة الغربية، لأنها جعلت الشفافية ركناً من أركان حياتها، وتخلصت من عقدة العار إزاء الخطأ.
ولفت انتباهي خبر نشرته الصحافة البريطانية في الأسبوع الماضي، خلاصته أن قصر بكنغهام قد فتح أرشيفه السري لباحثين من جامعة مانشستر، بعدما كشف أحدهم عن علاقة القصر بتجارة الرقيق في القرن السابع عشر. وكان شارلز ملك بريطانيا قد صرح العام الماضي بأنه يشعر بأسى عميق لدور أسلافه في تجارة الرقيق، وأنها كانت صفحة سوداء في تاريخ بريطانيا، لكنه يرى أن علاج هذا الجرح يبدأ بالكشف عن كافة البيانات المتعلقة بالمسألة، في إطار بحث علمي موضوعي.
الإقرار بالأخطاء التي ارتكبها المجتمع السياسي تقليد مقبول في الثقافة الغربية، خاصة بعدما يصبح الخطأ وأطرافه في ذمة التاريخ. وهي طريقة لإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي، والحيلولة دون تحول العداوات السابقة إلى محرك لعداوات جديدة، أو على الأقل شعور الطرف المظلوم بأنه قد استعاد اعتباره، وأن المخطئ أقر بمسؤوليته، كي لا يقول أحد في المستقبل إن المظلوم شريك في الخطيئة أيضاً.
ويرد إلى ذهني الآن كتاب «التقصير» الذي أصدره فريق من الصحافيين الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
وركز على استكشاف نقاط الضعف التي قادت إلى هزيمة إسرائيل في الحرب. موقف الإسرائيليين والعرب من هذا الكتاب مثال على الفارق الكبير في التعامل مع أخطاء الماضي. نعلم أن الرقابة العسكرية لم تسمح بكثير مما أراد المؤلفون نشره. رغم ذلك فقد شكل صدمة للإسرائيليين، وأثار مطالبات قوية بمراجعة مدعياته وتحديد المسؤولية. في المقابل، فإن العرب الذين اطلعوا عليه في العام التالي (1974) تعاملوا معه كدليل على أننا «تمام التمام» وأن الإسرائيليين «مثلما تكلمنا عنهم سابقاً».
الحقيقة أن الانتصار الباهر في حرب رمضان (أكتوبر 1973) قد حجب عن عيوننا أهمية المراجعة التحليلية لما جرى في تلك الحرب، ولا سيما تشخيص نقاط القوة والضعف في الأداء السياسي والعسكري والاجتماعي. بحسب علمي لم تقم أي جهة عربية بمراجعة علمية جادة لتلك الحرب، ولا للحروب الأخرى التي كان العرب طرفاً فيها. كما أننا نمر بين حين وآخر بأزمات كبيرة، فلا يتوقف أحد لدراسة ما حدث، ولماذا ظهرت الأزمة، أو كيف نتفاداها.
النقد الذي يمارسه الغرب كممارسة تقدمية، يستثمره بعضنا في سياق التفاخر بأن «إقرار العاقل على نفسه حجة»، أي طالما قال الغربيون بأنهم أخطأوا، فهذا دليل على أننا خير منهم، والدليل أمامك؛ إقرارهم.
هذا المنهج يعزز في ظني ثقافة «العيب» أي اعتبار الحديث عن العيوب منقصة وسبباً لهدم البناء الاجتماعي والثقافي، ويتسبب عادة في التشنيع على الناقد. ثقافة العيب تعني - ببساطة - التستر على العيوب والأخطاء، مع أن هذا التستر يؤدي إلى تعميقها وتوسيعها والحيلولة دون علاجها في الوقت المناسب.
8:2 دقيقه
TT
ثقافة العيب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة