ربما لم تكن الوحيد الذي شعر أن أنباء توجيه اتهام لترمب تبدو غريبة: كيف يمكن لأمر بهذه الضخامة - أول اتهام جنائي يوجه لرئيس أميركي - أن يبدو بمثل هذا الصغر؟
لم يوجه اتهام لترمب بسبب جهوده إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، أو لتورطه في احتيال مالي لزيادة ثروته، أو حتى لإعاقة التحقيق الذي كان يجريه المستشار الخاص روبرت مولر حول روسيا، والتي بدت أمام الكثيرين في وقت مضى السبيل الأمثل للدفع بترمب في يد العدالة.
بدلاً عن ذلك، اختار مدعي مقاطعة مانهاتن، ألفين براغ، عضو الحزب الديمقراطي، وفريق العمل المعاون له من محققين لدى المقاطعة، إعادة البلاد ستة أعوام ونصف العام، تحديداً إلى الأسابيع الأخيرة من انتخابات عام 2016، عندما دفع ترمب أموالاً لنجمة أفلام إباحية تدعى ستورمي دانيلز، لمنعها من الحديث علانية عن علاقة تقول إنها ربطتها بترمب بينما كان متزوجاً. (لا تزال تفاصيل الاتهام غير معروفة ومن المقرر الكشف عنها بعد أن يسلم ترمب نفسه، الاحتمال الأكبر الأسبوع المقبل - لكن من المتوقع اتهام الرئيس السابق بتزوير السجلات التجارية للدفع، وإخفاء الأموال التي دفعها لدانيلز لشراء صمتها باعتبارها مصاريف قانونية روتينية).
لا يزال من غير الواضح كيف ستنتهي هذه القضية. وبغض النظر عن طبيعة الاتهامات الموجهة لترمب، ستثير المحاكمة عدداً من المسائل القانونية الجديدة والاستثنائية. وربما لا يتمكن مايكل كوهين، الذي يبدو أنه الشاهد الرئيس، من إقناع هيئة محلفين بإدانة ترمب، حتى داخل مانهاتن. في الوقت ذاته، يصعّد الجمهوريون بالفعل جهودهم لتصوير براغ باعتباره أداة سياسية يعمد إلى تحويل منصبه إلى سلاح لقنص الرئيس السابق نيابة عن الديمقراطيين.
ومع ذلك، ثمة أمر واحد على الأقل واضح: ربما يكون براغ أول محقق محلي يقدِم على هذا الأمر، لكن من المحتمل ألا يكون الأخير. الآن، سيشعر كل محقق محلي على مستوى البلاد بأن لديه القدرة على الانطلاق بحرية في فتح تحقيقات جنائية ومحاكمة رؤساء بعد خروجهم من المنصب. أما الديمقراطيون الذين يهللون اليوم للاتهامات الموجهة لترمب، فإن شعورهم ربما يختلف لو - أو عندما - ينتهي الحال بديمقراطي، ربما يكون حتى الرئيس بايدن، في وضع مشابه لترمب اليوم على يد أي من آلاف المدعين المنتخبين بالبلاد، المتعطشين لاكتساب شهرة واسعة من خلال محاكمة رئيس سابق للولايات المتحدة.
الحقيقة، أن النطاق الواسع وتنوع القوانين الجنائية بمختلف أرجاء البلاد، يوفر الكثير من الفرص أمام الوقوع في الخطأ. ومثلما قال المدعي العام حينها والقاضي مستقبلاً روبرت جاكسون منذ أكثر من 80 عاماً «ثمة فرصة كبيرة أمام أي مدعٍ لأن يجد على الأقل خرقاً فنياً واحداً لقانون ما من جانب تقريباً أي شخص على مستوى البلاد».
وأضاف «المسألة ليست اكتشاف وقوع جريمة، ثم البحث عن الشخص الذي اقترفها، وإنما اختيار شخص ثم البحث في كتب القانون أو دفع المحققين للعمل على توجيه اتهام له».
على سبيل المثال، يواجه هانتر بايدن اتهامات بارتكاب سلوك مماثل؛ الأمر الذي جذب أنظار محققين فيدراليين وأعضاء بالكونغرس عن الحزب الجمهوري، ويمكن أن يؤدي إلى فتح تحقيق في ظل قوانين ديلاوير التي تحظر تزوير السجلات التجارية وتقديم مستندات مزورة للدولة.
جدير بالذكر، أن ديلاوير ولاية ديمقراطية بقوة. لذلك؛ فإن هذه الإمكانية تحديداً تبدو غير محتملة الحدوث، لكن المحققين المنتخبين داخل المقاطعات الجمهورية من الممكن أن يجدوا سبلاً مبتكرة لاستهداف أسرة رئيس ديمقراطي، خاصة إذا كان لدى الرئيس أو زوجته أو أي من أفراد أسرته أعمال تجارية وطنية أو دولية وتعاملات مالية داخل الولاية.
في الواقع، ثمة عقبات قانونية كبيرة تعترض طريق المحققين الذين قد يرغبون في توجيه اتهام إلى رئيس سابق عن أفعال رسمية، لكن تبقى هناك الكثير من المجالات التي تظل مفتوحة أمام إخضاعه لمراقبة وثيقة حتى خلال فترة رئاسته. كل رئيس يسافر عبر أرجاء البلاد لتنظيم حملات انتخابية وجمع تبرعات. لنفترض أن مرشحاً وجّه الموكب بالإسراع للوصول إلى فعالية ما، ويسفر ذلك عن وقوع حادث مميت، أو يوجه المنظمين للسماح للناس بالدخول إلى مكان لا يسع الأعداد كلها؛ ما يؤدي إلى فقدان شخص ما حياته جراء التدافع. هل سنعاين بعد ذلك فتح تحقيق وعقد محاكمة هذا المرشح الرئاسي بتهمة القتل غير المقصود؟
ثمة قانون في فلوريدا يجرّم القذف - فهل إذا غادر بايدن منصبه وانتقد ترمب أو أي شخص آخر من أبناء فلوريدا بشكل مكتوب، سيصبح عرضة للمحاكمة؟
في الواقع، من المستحيل توقع كل مثل هذه الاحتمالات الممكنة. والاحتمال الأكبر أن ترمب لم يدر بذهنه قط أن دفعه أموالاً تخص شركته إلى نجمة أفلام إباحية كي تلتزم الصمت، سيجعله عرضة للمثول أمام القضاء في مانهاتن.
لم يكن من الضروري أن يصبح الأمر على هذه الحال. أما التوجه العقلاني، على أقل من جانب بايدن، فكان يقتضي أن يصدر توجيهاته للمدعي العام كي يتعاون وينسق مع براغ وكذلك فاني ويليس، المحققة التي تتولى التحقيق بالقضية، للتأكيد لهما على أن وزارة العدل تحت إدارة بايدن ستجري تحقيقاً جنائياً شاملاً بخصوص تعاملات ترمب التجارية، وجهوده لإلغاء نتيجة انتخابات عام 2020.
المعروف، أن المحققين الفيدراليين عادة ما يطلبون من المحققين المحليين وعلى مستوى الولايات التنحي جانباً، عندما تتعلق الحقائق الخاصة بقضية ما بقوانين أو مصالح فيدرالية، ودائماً تقريباً ما يوافق المحققون المحليون.
من خلال ذلك، كان بايدن سيتمكن من تخفيف حدة الجدال المثار حالياً حول ترمب، وربما كذلك كان ليتمكن من حماية نفسه وخلفائه الديمقراطيين من محاولات ثأر مستقبلاً. إلا أنه لا يبدو أن الرئيس أقدم على هذه الخطوة، ما ترك لبراغ وويليس حرية مطاردة ترمب بخصوص أي سلوك مشبوه داخل مجال الولاية القضائية الخاصة بهما.
اليوم، ربما لم يعد هناك الكثير بمقدور بايدن أو أي رئيس آخر فعله لتقليل المخاطر التي يواجهها، سوى ربما قصر نشاطاتهم غير الرسمية - حيث يعيشون ويقضون إجازاتهم ويضطلعون بأعمالهم التجارية أو أعمالهم غير الهادفة للربح - على الولايات والمقاطعات التي تخضع لنفس الحزب الذي ينتمون إليه. إلا أن هذا أيضاً يرسم سيناريو مظلماً: أميركا يتجنب فيها الرؤساء الولايات التي يختلف أبناؤها معهم.
في الوقت الراهن، أفضل ما يمكن للحزبين فعله العمل على تقليص حدة الجدل المثار حول اتهام ترمب، على الأقل كي لا يترسخ في أذهان ناخبيهم أن هذا الأمر أصبح جزءاً من الأدوات السياسية المألوفة في البلاد.
واليوم، ينبغي لنا جميعاً ترك القضية تأخذ مسارها الطبيعي حتى تصل إلى نهاية منظمة، وأياً ما كانت النتيجة علينا محاولة ابتلاعها وإيعازها لحقيقة أن ترمب لا يفشل أبداً في خلق مواقف غريبة وفريدة من نوعه حوله.
* خدمة «نيويورك تايمز»
