أصبح التحول الحاد الذي شهدته تركيا في سياستها تجاه سوريا محور التحركات الدبلوماسية الأخيرة بشأنها.
في 28 ديسمبر (كانون الأول)، اجتمع وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا في موسكو لأول مرة منذ 12 عاماً. وبعد ذلك، وضع المسؤولون الأتراك رفيعو المستوى خريطة طريق، يجتمع بموجبها وزراء الخارجية قريباً، في أعقاب اجتماع وزراء الدفاع، ثم من المأمول أن تتوج العملية باجتماع بين إردوغان والأسد. وكما تبين، فمن غير المرجح أن تسير الأمور بالسرعة التي تمناها الجانب التركي.
فقد أعلن الأسد أنه «بدايةً، يجب إنهاء الاحتلال والإرهاب»، أي لا بد من انسحاب القوات التركية من سوريا، ولا بد أن تُوقف تركيا دعمها للمعارضة السورية.
في وقت لاحق، صرح وزير الخارجية السوري فيصل المقداد أنه «ما لم تتوافر الظروف، فلا يمكننا الحديث عن إقامة علاقات طبيعية مع تركيا، وإن لقاء الأسد مع القيادة التركية يعتمد على إزالة أسباب النزاع».
المشاكل الرئيسية التي تواجه تركيا في ما يتعلق بسوريا هي وجود ما لا يقل عن 3.7 مليون لاجئ سوري على أراضيها، والمسائل الأمنية، أي بالأساس، «وحدات حماية الشعب - قوات سوريا الديمقراطية».
وتعرضت سياسة الحكومة التركية تجاه سوريا لانتقادات واسعة في تركيا حتى داخل صفوف «حزب العدالة والتنمية» الحاكم (حزب إردوغان). ومن المقرر أن تُجرى الانتخابات في تركيا في غضون بضعة أشهر، ربما في شهر مايو (أيار)، أو على الأكثر في يونيو (حزيران). ولم يتبق على ذلك سوى بضعة أشهر. وتريد الحكومة التركية أن تفعل شيئاً ملموساً، أو تعطي انطباعاً بأنها ستكون قادرة على فعل شيء ملموس إذا أعيد انتخابها، فهي تهدف إلى استرضاء الناخبين وحرمان المعارضة من ورقة انتقاد مهمة.
وبعد أن واجهت روسيا وتركيا بعضهما البعض في سوريا على نحو خطير على طرفي نقيض، نجحتا في تطوير علاقاتهما إلى علاقات تعاون، وشكّل البلدان، مع إيران، «عملية آستانة» التي غيرت مجريات الأحداث في سوريا.
ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقات بين تركيا وروسيا مزيداً من التطور، امتد إلى مجالات استراتيجية، مثل أنظمة الدفاع الجوي ومحطات الطاقة النووية. وأسفرت الحرب في أوكرانيا عن توسيع نطاق وطبيعة التعاون. ورغم كلمات التقدير لدور تركيا في الحرب في أوكرانيا، فإن علاقتها بروسيا جعلت حلفاءها الغربيين غير راضين ومتشككين في ذات الوقت.
وحاولت روسيا دائماً تحويل دور تركيا، أو على الأقل تحييدها في سوريا، والآن حصلت على فرصتها. وقد دفعت التطورات بشأن حرب روسيا ضد أوكرانيا، والانتخابات المقبلة في تركيا، كلا البلدين إلى اتخاذ خطوات ربما لم يكونا ليتخذاها لو اختلفت الظروف. ويأمل الرئيس بوتين، عبر تيسير التقارب بين تركيا وسوريا، في تحقيق مكاسب على عدة مستويات. ومن بين هذه القضايا دعم الحملة الانتخابية لإردوغان من خلال تهيئة الظروف المواتية لإحدى أهم القضايا في السياسة التركية، ومنع عملية عسكرية جديدة من شأنها أن تؤدي إلى توترات مع روسيا أيضاً، ما يتسبب في المزيد من الشكوك والاحتكاك بين تركيا وحلفائها الغربيين، ودفع الولايات المتحدة إلى الخروج من سوريا هو من بين تلك الأمور.
أين يقف الأسد من ذلك؟ نحو ثلث سوريا خارج سيطرته، والأجزاء التي يسيطر عليها مضطربة للغاية، فقد كانت السويداء ودرعا مركزين للاضطرابات الخطيرة والمشاكل الأمنية. والأوضاع الاقتصادية متقلبة للغاية. وباستثناء القلة المتميزة، فإن غالبية الشعب السوري وصلت إلى مستوى يكاد يكونون فيه غير قادرين على البقاء على قيد الحياة.
فقد استُبدل بالنخبة السورية التقليدية والطبقة الوسطى إلى حد كبير حشدٌ جديد. وإلى جانب عائلة الأسد وشخصيات أخرى من النظام، فإن هؤلاء الذين يغلب عليهم الاستفادة من متربحي الحرب هم الذين يبسطون أيديهم الآن على ما تبقى من الاقتصاد والثروة السورية. وتُشكل المخدرات، ومصادرة الأراضي والممتلكات، والسوق السوداء، والتهريب، الجزء الأكبر من الاقتصاد السوري الحالي.
قد يكون الأسد أضعف عسكرياً مقارنة بالجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى المشاركة في سوريا، لكنه يتمتع بدعم روسيا وحمايتها، وهو أمر من غير المرجح أن يتغير على الرغم من الحرب في أوكرانيا.
وربما يشعر الأسد أنه برغم المشاعر السيئة ضده، فإن المجتمع الدولي يعتاد فكرة أنه موجود ليبقى. وقد يعتقد أن دولاً عربية قد تراجعت، وأن بلداناً أخرى، بما في ذلك تركيا، سوف تنضم في نهاية المطاف إلى تلك القافلة.
وبضغط من روسيا، يتحدث نظام الأسد إلى تركيا، لكنه وضع شروطاً للمضي قدماً في عملية التقارب.
ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أن الأسد دعا روسيا، التي تتولى حمايته، إلى «عدم الفرض عليه»، وإنما «التنسيق» معه. وقال: «لكي تكون الاجتماعات (مع تركيا) مثمرة، ولكي تتمكن البلدان الثلاثة من التوصل إلى أهداف ملموسة، فإن الاجتماعات الثلاثية لا بد أن تستند إلى تنسيق وتخطيط مسبقين بين سوريا وموسكو».
تركت روسيا إيران خارج تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، لكن إيران لم تتنحَّ. وفي كانون الثاني (يناير)، زار وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان دمشق وأنقرة. وقال الوزير الإيراني إن بلاده «مسرورة بالحوار بين سوريا وتركيا». ولا بد من قراءة هذا البيان مع إضافة عبارة: «إلى الحد الذي يسمح لإيران بالتأثير في المجريات ما دامت تخدم مصالحها».
وقبل بضعة أيام، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي هاتفياً حول قضايا مختلفة. ونقلت الصحافة الإيرانية عن رئيسي تأكيده على محورية إطار «آستانة» في الجهود الرامية إلى حل القضايا السورية. وهذا يعني: «لا تتركونا في الخارج»، وربما تكون هنالك كلمة «وإلا...» التحذيرية غير المعلنة.
الولايات المتحدة هي العنصر الرئيسي الآخر في المعادلة المعقدة المتعلقة بسوريا. ولا يزال التعاون الأميركي مع «وحدات حماية الشعب - قوات سوريا الديمقراطية» إحدى أكثر القضايا إثارة للقلق في العلاقات التركية الأميركية.
وأكد مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون أن الولايات المتحدة لا تنوي التخلي عن «قوات سوريا الديمقراطية»، لأن هذه القوة التي يقودها الأكراد هي الشريك القتالي الوحيد القادر والملتزم في شمال شرق سوريا، والمستعد للمشاركة مع الولايات المتحدة بصفة يومية لمواصلة المعركة المستمرة ضد داعش».
كما أعربت الولايات المتحدة عن معارضتها لمحاولات المصالحة مع الأسد. وموقف الولايات المتحدة يشمل التحركات الأخيرة التي قامت بها تركيا في هذا الاتجاه.
في الأسبوع الماضي، قام وزير الخارجية التركي بأول زيارة رسمية له إلى واشنطن منذ تولت إدارة بايدن مهامها، والتقى بنظيره أنتوني بلينكن. وكانت سوريا من بين القضايا المختلفة التي ناقشوها. وبالنظر إلى البيان المشترك الذي صدر بعد اجتماعهما، أود أن أقول إنهما لم يتجاوزا مجرد تكرار مواقفهما. لم يكن هناك أي تقدم في القضايا السورية، أو قضايا أخرى في هذا الشأن. وإذا كان هناك تقدم، فإننا سوف نعلمه، لا سيما في وقت تحرص فيه الحكومة التركية بشدة على إبلاغ جمهورها بأي شيء يمكن تقديمه على أنه «نجاح دبلوماسي آخر».
وعند النظر إلى الأطراف السورية الأخرى المشاركة في الصراع، فإن كلاً من المعارضة السورية (بما في ذلك الجيش الوطني السوري) و«وحدات حماية الشعب» (الأكراد) لديهما أسبابهما للقلق. وكلهم في حالة تأهب قصوى لحماية أنفسهم ومصالحهم.
وقد خرجت مظاهرات في العديد من البلدات التي تسيطر عليها المعارضة في شمال شرق سوريا، ورفضت «هيئة تحرير الشام» أي مصالحة مع النظام. وكذلك أعلنت الجماعات المسلحة الأخرى. وللتأكيد على مواقفها، استأنفت هذه الجماعات عملياتها العسكرية ضد قوات النظام في أجزاء من إدلب وحلب واللاذقية.
ويدعو المجتمع الدولي إلى حل سياسي في سوريا، استناداً إلى مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254، لكن لا يوجد تقدم لأسباب معروفة الآن. ويؤدي تدخل العديد من الجهات الفاعلة، ذات المصالح المختلفة والمتضاربة في معظمها، إلى تعقيد المشكلة بصورة أكثر من ذلك.
وعند هذا المنعطف، يمكن أن تكون المصالحة الحقيقية بين تركيا والأسد بمثابة الاختراق الحاسم.
لكن العنصر الأكثر أهمية هنا هو مدى استعداد الرئيس إردوغان لتحمل «نزعته البراغماتية»، ومدى ثقة مختلف الأطراف، بما في ذلك نظيره في سوريا، بنواياه.
من جانبه، يشكل الأسد نفسه مشكلة كبيرة وعقبة أمام التقدم والحل السياسي؛ فهو مُهان، ويُنظر إليه بأنه مجرم حرب من قبل العديد من السوريين وجزء مهم من المجتمع الدولي. والحل الوحيد الذي يسعى إليه الأسد هو الحل الذي يبقيه ونظامه على رأس السلطة بصفة مطلقة.
في ظل الظروف الراهنة، قد تكون «العملية» بين تركيا وسوريا طويلة للغاية.
8:37 دقيقه
TT
هل يمكن أن يكون هناك تقدم في سوريا؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة