أشرنا مراراً إلى أن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الجديدة، من سياسات على الأرض، منذ اليوم الأول لتسلمها السلطة، ومن تكرار إعلان نياتها ورؤيتها لمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة، يؤكد -ليس فقط على مستوى العقيدة والخطاب السياسي؛ بل خصوصاً الممارسة- أنها الحكومة الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ إسرائيل. فلا اعتراف بأبسط حقوق المواطنة للفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، وبالطبع الرفض الكلي للاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فكأن هؤلاء مجرد أفراد وجماعات يوجدون «بالغلط»، أو يقيمون على أرض «إسرائيل الكبرى» التي سيجري الإسراع في توفير كافة الظروف والشروط لتحقيق حلم إقامة دولتها من «النهر إلى البحر». وفي الإطار نفسه يُترك للفلسطينيين نوع من الإدارة الذاتية المحدودة أيضاً في الصلاحيات، في أفضل الحالات.
إيتمار بن غفير، زعيم حزب «القوة اليهودية»، وبتسليل سموتريتش، زعيم حزب «الصهيونية الدينية»، يمثلان أبرز قيادات ورموز هذا اليمين الديني المتشدد في الحكومة الجديدة. ويواجه نتنياهو أزمة لم تكن متوقعة منذ قيام الحكومة، بسبب قرار المحكمة العليا إقالة زعيم حزب «شاس»، أرييه درعي، أحد أبرز وجوه اليمين المتطرف أيضاً، من هذه الحكومة، لأسباب تتعلق بمخالفات عديدة له، واستغلاله للسلطة في مسؤوليات سابقة.
وتشهد الضفة الغربية سياسة ناشطة للتهويد المزدوج (الجغرافي والديمغرافي) من خلال مزيد من السيطرة على الأرض، وكذلك محاصرة السكان الفلسطينيين بوسائل عديدة لدفعهم للهجرة: إنها حرب في الجغرافيا ترافقها حرب في الديمغرافيا، لاستكمال ما أشرنا إليه في البداية من إقامة دولة إسرائيل الكبرى. كما صارت إحدى سمات السياسات الجديدة الاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى، وتشجيع؛ لا بل دفع المستوطنين للقيام بذلك، مع توفير الحماية الضرورية لهم.
تساعد على ذلك دون شك جملة من العناصر: أولها حالة الانهيار التي بلغها الجسم السياسي الفلسطيني، والسلطة الوطنية بشكل خاص، وعدم إجراء الانتخابات المنتظرة للهيئات الوطنية الفلسطينية المعنية، بحجة وجود الخلافات، وعدم توفر الإمكانات بسبب الاحتلال للقيام بالانتخابات. ساهمت في ذلك أيضاً، إلى جانب استفحال الصراعات والخلافات الفلسطينية السياسية والتنظيمية والعقائدية، حالة الوهن والتفكك التي أصابت الجسم السياسي والتنظيمي الفلسطيني.
ولا بد من التذكير أيضاً في السياق ذاته بأن التطورات في الإقليم الشرق أوسطي؛ وخصوصاً الصراعات الحادة والحروب الساخنة والمختلفة، وتلك التي تجري بالوكالة، قد ساهمت أيضاً، إلى جانب ما أشرنا إليه سابقاً، في إسقاط القضية الفلسطينية من جدول الأولويات الإقليمية.
ولا تكفي سياسة المناشدات الروتينية والمتكررة، أياً كان مصدرها، بضرورة تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، من منطلق أخلاقي ومبدئي وقانوني دولي (قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتحديداً قرارات مجلس الأمن وأفكار ومبادرات السلام، وأهمها -دون شك- مبادرة السلام العربية التي أقرت في القمة العربية في بيروت عام 2002) لولوج باب التسوية السلمية المطلوبة، والمعروفة أسسها وقواعدها.
فمخاطر تكريس الاحتلال التي تنشط بشكل كبير الحكومة الحالية لتحقيقه، مستفيدة مما أشرنا إليه من عوامل مساعدة، تتسارع كل يوم بشكل أكبر.
القمة المصرية الأردنية الفلسطينية التي عقدت يوم 17 من هذا الشهر، حذرت من مخاطر سياسة «الأحادية الإسرائيلية» الناشطة. كما أن الأراضي الفلسطينية المحتلة تعيش حالة من الغليان الشعبي، ويشارك فيها الفلسطينيون في إسرائيل الذين يعانون بشكل كبير سياسات التمييز العنصري، مما يؤشر لاحتمال حصول انتفاضة أكثر زخماً وعنفاً وانتشاراً من الانتفاضتين الماضيتين (1978 و2000).
ولكن لا تكفي سياسات دولية وإقليمية، تبلورت منذ سنين عندما توقفت فعلياً مفاوضات السلام، قامت على محاولات احتواء التوتر لمنع التصعيد، والتركيز على إدارة النزاع، واللجوء إلى ما تعرف بـ«سياسة المراهم»، لتنفيس الاحتقان بشكل مسبق أو لاحق. فالتطورات الحاصلة على الأرض -كما أشرنا سابقاً- لم يعد من الممكن احتواؤها أو وقفها أو تنفيسها عبر هذه السياسات والمبادرات، وتكرار الإعلان بالتمسك بحل الدولتين. هدف تتراجع إمكانية تحقيقه كل يوم مع السياسات الإسرائيلية الناشطة والناجحة في نسف الأسس التي يفترض أن يقوم عليها هذا الحل.
وإذا لم يكن من الممكن اليوم إحياء دور الرباعي الدولي، بسبب المواجهة الأميركية الروسية حول أوكرانيا، دون أن يعني ذلك أن إحياء هذا الدور بحد ذاته سيقود إلى التسوية المنشودة، فإن من الضروري البحث عن صيغة أخرى. صيغة تضم دولاً عربية معنية بشكل أساسي أكثر من غيرها، لأسباب تتعلق بأمنها القومي والأمن الإقليمي، إلى جانب قوى دولية، أوروبية وغيرها، معنية أيضاً بأمن واستقرار الإقليم الشرق أوسطي، لإطلاق مبادرة لإحياء عملية السلام على أساس المرجعيات المعروفة بشكل تدرجي. وعلى الرغم من الصعوبات والعراقيل أمام مبادرة من هذا النوع، بينما العالم منشغل بالحريق الأوكراني الملتهب والممتد؛ فإنها تبقى ضرورية وفي سباق مع الوقت، حتى لا نشاهد حريقاً آخر في شرق أوسط تنتشر فيه الحرائق تتغذى ويغذي بعضها البعض الآخر.
المطلوب إذن ولوج مسار تسوية النزاع، وليس الاستمرار في دبلوماسية تقوم على محاولات احتوائه وتجميده.
8:2 دقيقه
TT
مخاطر غياب التسوية في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة