ماذا يعني أن تشعر بالخجل الشديد من حياتك حتى تضطر إلى اختراع حياة جديدة تماماً؟
لا يشعر معظمنا بأنه مضطر لفعل ذلك؛ إذ يتناول معظمنا الأحداث الفعلية في حياتنا، بما في ذلك حالات الفشل والضعف، وتدريجياً نبني من خلالها روايات متماسكة حول هويتنا الحقيقية. دائماً ما يجري تحديث تلك السيرة الذاتية مع مرور الوقت - وبطبيعة الحال، تميل لأن تكون مُرضية بصفة ذاتية وبصورة متواضعة. لكن بالنسبة لمعظمنا، فإن قصة الحياة التي نتلوها للعالم ولأنفسنا تمنحنا شعوراً مستقراً بالهوية. فهي تساعدنا في تسمية ما تعلمناه من التجربة، وما تحمله حياتنا من معانٍ. كما تساعدنا في اتخاذ أكبر قرارات حياتنا. وكما لاحظ الفيلسوف ألسدير ماكنتاير ذات مرة: لا يمكنك معرفة ما يتوجب عليك فعله إلا إذا أدركت القصة التي أنت جزء منها.
يعد سرد السيرة الذاتية الدقيق والمتسق إلى حد معقول، أحد أهم الأشياء التي يمكن أن يحصل عليها الشخص. إذا لم تكن لديك قصة حقيقية، فلن يكون لديك نفس (هوية) حقيقية.
على صعيد آخر، نجد جورج سانتوس شاباً شعر على ما يبدو بأنه مضطر إلى التخلي عن جزء كبير من حياته الفعلية والاستعاضة عنه بالخيال. وكما ذكرت غريس آشفورد ومايكل غولد من صحيفة «التايمز» البريطانية، فقد زعم سانتوس خلال حملته الناجحة للكونغرس هذا العام بأنه يحمل شهادة جامعية لا يمتلكها. وادعى أنه كان يشغل وظائف لم يكن يشغلها. وادعى امتلاكه ممتلكات يبدو أنه لا يملكها. ويزعم أنه لم يرتكب أي احتيال في الشيكات، برغم أن صحيفة «التايمز» كشفت سجلات المحكمة التي تشير إلى أنه فعل ذلك. وهو يزعم أنه لم يصف نفسه قط بأنه يهودي، بل إنه أقرب إلى اليهود فقط. ووصف نفسه بأنه مثلي الجنس، رغم أنه أخفى زواجاً عادياً استمر لسنوات ثم انتهى في عام 2019.
يميل كل السياسيين - وربما كل البشر - إلى التجمل. لكن ما صنعه سانتوس يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد ابتكر شخصية جديدة تماماً، شخصية رجل خارق يتمتع بجدارة فائقة. فهو يزعم أنه شخص شعوبي ولا يميل إلى أهل النخبة، ولكنه يريدك أن تظن أنه كان يعمل ذات يوم في مؤسسة «غولدمان ساكس» المصرفية. تصور مدى القصور الذي قد تشعر به في التغلب على كل هذه المشاكل.
لا أستطيع أن أشعر بالغضب الشديد تجاه سانتوس بسبب خداعه، وإنما القليل من الحزن. إن تقطيع أوصال ذاتك إلى تلك الدرجة من جذور الحقيقة يجعل حياتك كلها بلا استقرار. فقد جعل سانتوس ماضيه غير جدير بالثقة، وكان دوماً هدفاً للانتقادات. ولكن عندما تفعل ذلك في نفسك فأنت أيضاً تزيل أي رؤية متماسكة لمستقبلك. وربما يتساءل الناس كيف من الممكن أن يكون سانتوس بهذا الحمق. وفي الحياة السياسية، كان من المحتم أن تكتشف افتراءاته. قد يكون ذلك بسبب أن المنافقين غالباً ما يواجهون صعوبة في توقع المستقبل، فإنهم دائماً عالقون في الزمن الراهن.
إن سانتوس، إلى حد ما، عبارة عن نسخة حزينة وهزلية عن المكان الذي نقل الرئيس السابق دونالد ترمب الحزب الجمهوري إليه - إلى أرض اللاواقع، وقارة الخيالات. لم يكن استحواذ ترمب على الحزب الجمهوري استحواذاً آيديولوجياً في المقام الأول، بل كان استحواذاً نفسياً وأخلاقياً. أنا لا أشعر بالأسف تجاه ترمب كما أشعر إزاء سانتوس، ذلك لأن ترمب يبدو قاسياً للغاية. لكنه أدخل، على نطاق أوسع بكثير، نفس الملاحظة المثيرة للشفقة في نفسيتنا الوطنية.
في كتابه «الحالة الغريبة لدونالد ترمب»، يزعم دان ماك آدامز - عالم النفس البارز - أن ترمب بوسعه الكذب على نفسه بصفة مستمرة، لأنه لم يكن يتمتع بحس حقيقي بذاته. لم يكن هناك شخص حقيقي، أو حياة داخلية، أو سيرة ذاتية قابلة للخيانة. ينقل ماك آدامز عن أشخاص كانوا مقربين من ترمب، وأفادوا بأن الوجود معه لم يكن مثل الوجود مع شخص تقليدي، بل كان أشبه بالوجود مع كيان يقوم بدور دونالد ترمب. وذلك الدور لم يكن له أي حس بالاستمرارية؛ إذ كان منهمكاً تماماً في أي معركة للهيمنة كان يخوضها في تلك اللحظة.
ويطلق ماك آدامز على ترمب وصف «الرجل العرضي»، الذي يختبر الحياة كسلسلة من اللحظات المفككة، وليست كتدفق سردي مترابط للوعي. كتب ماك آدامز يقول: «إنه لا ينظر إلى ما قد يكمن أمامنا، على الأقل ليس بعيداً جداً. إن ترمب ليس انطوائياً، أو استرجاعياً، أو مستقبلياً. لا وجود للعمق، ولا للماضي، ولا للمستقبل في شخصيته».
مر بأميركا كثير من الدجالين وأشخاص عاودوا اختراع ماضيهم. (إن كان ذلك حقيقياً، إذن لعاش جاي غاتسبي - مع اختلاف تقديرات المواقع الدقيقة للشرق والغرب الخياليين - فيما يُعرف الآن بمقاطعة سانتوس). وهذا يبدو مختلفاً تماماً. أتساءل عما إذا كان عصر الانتباه الموجز والصور الرمزية على الإنترنت يخلق نوعاً جديداً من الشخصيات: الشخص الذي لا يختبر الحياة باعتبارها تراكماً عبر العقود، وإنما فقط كسلسلة من العروض المفككة في الوقت الحاضر، مع صدى من تجويف داخلي فارغ.
حاول سانتوس، في هذا الأسبوع، القيام ببعض محاولات السيطرة على الأضرار عبر سلسلة من المقابلات، بما في ذلك مع راديو «وابسي» بنيويورك. كانت المحادثة برمتها تدور حول أمر غير واقعي. كان سانتوس متردداً، ومراوغاً، وعشوائياً، ويُعدل قصصه بطريقة غامضة وغير واضحة. لم يكن المُضيف، جون كاتيماتيديس، يستجوبه بالطريقة التي قد يستجوبه بها الصحافي. بل كان عملياً يُدرب سانتوس على ما سيقوله. لم تكن المسألة المقلقة المتعلقة بالنزاهة الشخصية على قائمة اهتمامات أحد. وبعد ذلك، وصلت المحادثة إلى تصعيد على غرار «توم وولف» عندما ظهر عضو الكونغرس السابق أنتوني واينر على نحو مفاجئ - واتضح أنه الشخص الوحيد شبه المؤهل الذي يجري المقابلة في تلك الغرفة.
قال كارل ماركس ذات مرة إنه تحت تأثير الرأسمالية، يذوب كل ما هو صلب في الهواء. وأتساءل عما إذا يمكن لبعض «إكسير التأثير الترمبي» وحداثة الإنترنت أن يكون لهما التأثير نفسه على الشخصيات الفردية.
* خدمة «نيويورك تايمز»
8:11 دقيقه
TT
انتحال شنيع
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة