ما يزال عالمنا مُغرماً بالتصنيفات، وستظل الرغبة في تعيين قيم مادية لكل ما هو معنوي تلقى رواجاً، خصوصاً عندما تجتهد بعض المنظمات الدولية، أو وسائل الإعلام المرموقة، في إصدار قوائم سنوية ترتب المشاهير أو الدول أو المؤسسات، في أدلة دورية، لجهة تمتعها بأي من معايير القوة أو التأثير أو نجاعة الأداء.
سنجد أثراً لذلك في الرغبة الجارفة التي تعتري نظامنا الاتصالي العالمي لترتيب المكانات، وسواء كانت تلك المكانات تخص بشراً أو مؤسسات؛ فإن السعي دائب لاختزال كينونتها في رقم يمنحها ترتيباً يضعها على رأس قائمة أو في ذيل أخرى.
لذلك، فإن بعض وسائل الإعلام ومراكز التفكير المُهمة، تحظى باهتمام كبير حين تطلق تصنيفاتها السنوية المتعلقة بترتيب الأهمية أو الثراء أو السعادة في مجالات عدة، بل بات من المتعارف عليه استخدام تلك التصنيفات لاحقاً في عمليات البحث الاجتماعي والتحليل المالي والاقتصادي كمصادر أولية لمعلومات ذات قدر من الصدقية يمكن التعويل عليه.
ويمكن رصد الكثير من تلك المؤسسات التي باتت ذات باع طويل في هذا المجال؛ مثل مجلة «تايم» (Time)، التي تنشر قائمتها السنوية لأكثر مائة شخصية تأثيراً في العالم، أو مجلة «فوربز» (Forbes)، التي تنشر قائمة بأكثر الأشخاص ثراءً، وكذلك تفعل مجلة «فورتشن» (Fortune) المتخصصة في شؤون الاقتصاد وإدارة الثروات.
وبموازاة تلك التقارير والتصنيفات التي تصدر عن هيئات خاصة أو وسائل إعلام مرموقة؛ فثمة تصنيفات مهمة تصدر عن منظمات أممية مدعومة بقدرات بحث تقدمها مراكز دراسات مُعتبرة ذات اهتمام ونطاق عمل دوليين.
إن القائمين على إصدار مثل تلك الأدلة يقولون إنهم يعتمدون منهجية صارمة لترتيب الأشخاص والمؤسسات والبلدان، ويستخدمون مؤشرات علمية لإعطاء أوزان نسبية لقيم مثل التأثير والنفوذ والقوة والثراء، بل والحرية والسعادة.
وفي الأسبوع الماضي، كنا على موعد مع تصنيف جديد أطلقته مجلة «تايم»، حين اختارت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شخصية العام 2022، ولكي تضفي على الاختيار المزيد من الصدقية والصبغة الأخلاقية؛ فقد أضافت إليه «الروح الأوكرانية»؛ إذ القصد «روح المقاومة الوطنية ضد الغزو الروسي» بطبيعة الحال.
وكما تقول «تايم» في تسويغها لهذا الاختيار، فإن زيلينسكي «حفّز العالم بطريقة لم نشهدها منذ عقود، عبر عدم الفرار من أوكرانيا، مفضّلاً التحدي بالبقاء وحشد الدعم لبلاده».
يقتضي الإنصاف القول إن هذا الممثل الكوميدي البالغ من العمر 44 عاماً، والذي دخل مسرح السياسة في مفاجأة صارخة قبل نحو أربع سنوات، أظهر جَلَداً ومثابرة نادرين، وفاجأ كثيرين ممن عدّوا رئاسته لبلاده دليلاً على فراغ سياسي، أو تدخلات خارجية أرادت ترتيب الأوضاع في هذا البلد على نحو معاند للمصالح الروسية.
لكن النقاد، من جانب آخر، لن يخفقوا في إيجاد الذرائع اللازمة للتشكيك في سلامة هذا الاختيار؛ إذ إنه من المعروف أن تلك الجائزة تذهب إلى شخصية تتمتع بكونها صاحبة أكبر تأثير في الأحداث العالمية على مدى الشهور الـ12 السابقة على إعلانها، وهنا سيثور السؤال: هل زيلينسكي هو هذه الشخصية بالفعل؟
من بين المتنافسين وأصحاب الحظوظ في المنافسة الأخيرة، الذين ذكرت المجلة أسماءهم، سيبرز المتظاهرون في إيران، والزعيم الصيني شي جينبينغ، ورجل الأعمال الفائق الشهرة إيلون ماسك، وكل منهم، كما يرى كثيرون، حظي بفرصة إحداث أثر لا يُستهان به على الصعيد العالمي خلال العام الذي يوشك أن يغادرنا.
ومن بين المتنافسين الذين لم يحظوا بالاختيار، سيبرز أيضاً اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وصحيح أن هذا الأخير اختير كشخصية العام من قِبل المجلة نفسها في عام 2007، لكن آخرين سبق اختيارهم أكثر من مرة في أعوام سابقة، كما أن الوقائع تثبت كل يوم أنه صاحب التأثير الأكبر في عالمنا راهناً، وسيكون هذا مُنصباً على قدر ما أحدثه من أثر، وليس بالضرورة تقييمنا الأخلاقي، أو موقفنا السياسي من أفعاله.
من زاوية سياسية، لا يمكن إنكار تأثير زيلينسكي ولا أهميته في الحدث الروسي - الأوكراني، لكن القراءة المتأنية - المتجردة من الانحياز السياسي - لما يجري على المسرح العالمي، ستشير بوضوح إلى أن بوتين هو شخصية العام صاحبة الأثر الأكبر في «معاناة» العالم، أو «تحولاته السياسية الجوهرية».
اختيار «تايم» لزيلينسكي ربما يعكس نهجاً دعائياً، وبوتين 2022 أكثر تأثيراً في العالم منه في 2007، وهذا الأمر لا يُقيّم ما يفعله أخلاقياً بقدر ما يشير إلى حجم تأثيره واتساع نطاقه وقدرته على الاستدامة.
7:52 دقيقه
TT
هل زيلينسكي شخصية العام فعلاً؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة