دخلت الحرب في أوكرانيا شهرَها العاشر بتكلفة باهظة على الشعب الأوكراني، والعالم بأسره. وقد خرج بصيصُ أملٍ من واشنطن خلال الأسبوع الحالي، ما يشير إلى أنَّه ربما حان الوقت للحديث عن السلام. كان الإجماع، لدى دوائر الأمن والسياسة الخارجية العالمية، أنه «الآن هو أوان القتال، وليس الكلام في أوكرانيا»، مدعوماً بمزاعم كييف أن تحرز النجاحات، وسوف تستعيد الأراضي المحتلة كافة قريباً، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. أما الذين خالفوا هذه الرؤية أو طالبوا بالحل الدبلوماسي فلم يُقبل رأيهم، أو ربما قيل إنهم ألعوبة في يد الرئيس الروسي.
كانت واشنطن دائماً تقول إن «السبيل لإنهاء هذه الحرب يمر عبر المحادثات الدبلوماسية»، إلا أن هذه العبارة كانت تعقبها دائماً الإشارة إلى أن الروس ليسوا جادين في إنهاء الحرب الدائرة.
شرعت الأمور في التغير ببطء وحذر قبل القمة الأميركية الفرنسية، وبلغت ذروتها خلال المؤتمر الصحافي الذي جمع الرئيسين الأميركي والفرنسي. إذ أعرب الرئيس بايدن عن استعداده للجلوس مع الرئيس الروسي «إذا كان يبحث عن سبيل لإنهاء الحرب».
أثبت الرئيسان موقفهما بكل وضوح، جنباً إلى جنب مع حلفائهما في حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، بأنهما يتخذان «نفس موقف القوة والثبات الذي كانا يتخذانه منذ البداية، إزاء أوكرانيا، ضد حرب روسيا الوحشية»، وأنهم لن يحثوا الأوكرانيين أبداً على قبول تسوية غير مقبولة بالنسبة لهم. لقد كانا يحاولان طمأنة الجانب الأوكراني.
كان الموقف الراسخ لدى الجانب الأميركي المتمثل في أنه «لا شيء لصالح أوكرانيا من دون أوكرانيا» ما يزال قائماً.
جاءت أولى إشارات التغير من جانب الجيش الأميركي بتاريخ 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، عندما صرّح الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، للجمهور في خطاب ألقاه في نيويورك، أنَّ تحقيق أوكرانيا لنصر عسكري قد لا يكون ممكناً، ناصحاً - إثر انسحاب روسيا من خيرسون - أن ذلك الانسحاب «يتيح فرصة لبدء المفاوضات مع روسيا». ونُقل عن الجنرال ميلي قوله: «كلا الجانبين بحاجة للتوصل إلى اعتراف متبادل بأن النصر العسكري قد لا يمكن تحقيقه بالوسائل العسكرية، ومن ثم يتعيَّن عليكم اللجوء إلى سبل أخرى»، مضيفاً أن «المأزق المحتمل يوفر فرصة راهنة، ويفتح باباً للمفاوضات».
وفي حين حاولت الإدارة الأميركية احتواء تداعيات تصريح الجنرال ميلي الذي أغضب الجانب الأوكراني، ضاعف الجنرال الأميركي، بعد بضعة أيام، من حديثه في البنتاغون رفقة وزير الدفاع إلى جانبه. وطرح تقييماً دقيقاً للغاية للقدرات الأوكرانية، قائلاً: «النصر العسكري الأوكراني ليس قريباً، وإنما الوقت مناسب للمفاوضات». وأشار إلى أن «سلسلة النجاحات التي حقّقتها أوكرانيا مؤخراً في ميدان المعركة لن تحقق نصراً عسكرياً نهائياً في أي وقت قريب، لكنها هيّأت ظروفاً مواتية للتفاوض مع روسيا». مؤكداً أن «روسيا الآن في أسوأ مواقفها عسكرياً»، ثم شكك في قدرة أوكرانيا على طرد الروس من كامل الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
واتفق وزير الدفاع لويد أوستن مع ذلك، وتوقع ألا تنتهي هذه الحرب في أي وقت قريب.
وتشير الآونة الراهنة إلى أن الوضع الراهن لم يعد قابلاً للاستمرار. وأن الثمن الذي تتكبده كل من أوكرانيا، وروسيا، وواشنطن وحلفاؤها، فضلاً عن العالم بأسره، قد صار باهظاً للغاية من النواحي العسكرية، والاقتصادية، والسياسية. وأن هناك مؤشرات تشير إلى حالة من الجمود، أو ربما احتواء الصراع، وحرب استنزاف لدى كلا الجانبين.
شاع السأم داخل أروقة الأمم المتحدة في ظل الامتناع عن التصويت فيما يخص الأزمة الأوكرانية، ما كان بمثابة إشارة واضحة للحاجة إلى تلمس مسار جديد.
ثم جاءت الصواريخ التي ضربت بولندا وقتلت شخصين في منتصف نوفمبر. وكانت صيحة تحذير للجميع، وأول إشارة على الاختلاف في المصالح بين واشنطن وكييف.
ظهرت تلميحات ومخاوف في الصحافة من أن كييف ربما تحاول جرّ الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى مواجهة عسكرية أكبر أو حرب نووية مع روسيا، ما يمثل السيناريو الكابوس للقادة على جانبي الأطلسي. إذ عزّزت ردود الفعل الأوكرانية من هذه المخاوف.
ووصف الرئيس الأوكراني الضربة الصاروخية بأنها «تصعيد كبير حقاً من جانب روسيا». وقال: «قصف أراضٍ تتبع حلف الناتو بالصواريخ. وهجوم على الأمن الجماعي»، داعياً إلى التحرك حيال ذلك.
أما بولندا، فقد دعت إلى عقد اجتماع للناتو بموجب المادة الرابعة، بينما تكهن كثيرون بخصوص ما إذا كان ينبغي تفعيل المادة الخامسة من معاهدة الحلف.
وجاء رد فعل الرئيس بايدن متحفظاً وحذراً عندما تحدث أثناء حضوره قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا.
وقال الرئيس إنه «من غير المحتمل» أن يكون الصاروخ قد أطلق من روسيا. وفنّد مزاعم الرئيس الأوكراني زيلينسكي قائلاً: «هذا ليس بدليل». وطالب بانتظار نتيجة التحقيق. وقد تحركت الولايات المتحدة رفقة بولندا والحلفاء على مسار منع التصعيد في الأمر.
وتساءل ستيفن والت في دورية «فورين بوليسي» عما إذا كانت المصالح الأميركية الأوكرانية متسقة فعلاً، وأعرب عن اعتقاده بأن «الصاروخ الشارد قد يحفز القادة على كلا الجانبين نحو العمل على محاولة إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن».
في وقت لاحق، قدّم الرئيس زيلينسكي، بعد حثّ من واشنطن، خطته للسلام المكونة من 10 نقاط إلى قمة مجموعة العشرين.
هذا الزخم الجديد لفتح طريق للحوار لا يعني أن السلام سيعم غداً. فقد تراجع البيت الأبيض عن بيانه في وقت لاحق قائلاً إن «الرئيس لا يعتزم الحديث مع السيد بوتين الآن».
كان ردّ الفعل الروسي متوقعاً، لكنه غير مشجع، مشيراً إلى أن بوتين منفتح على «الاتصالات والمفاوضات»، وأن «الدبلوماسية السبيل المفضل لتحقيق أهداف روسيا». إلا أنهم أوضحوا أن «عدم الاعتراف بالأراضي الجديدة باعتبارها جزءاً من روسيا يزيد من تعقيد جهود البحث عن أرضية مشتركة».
لا ينبغي للفجوة الهائلة في مواقف مختلف الأطراف أن تثبط الجهود. بل ينبغي لها أن تكون السبب الداعي لمنح الأولوية للمساعي الدبلوماسية الآن.
لقد تأخر وقت الحديث كثيراً قبل خروج هذه الحرب عن نطاق السيطرة نتيجة سوء التقديرات، أو الأخطاء، أو عن عمد.
TT
الحديث عن السلام لأجل أوكرانيا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة