كريس هايز
TT

بناء حياة رقمية جديدة

يتجاوز حجم أرشيف «تويتر» الخاص بي 6.4 غيغابايت ـ موزعة على أكثر من 161.000 تغريدة على مدار 15 عاماً. في الواقع، إنها كتابة كافية لملء نحو 10 كتب.
حتى أكبر مخاوفي بخصوص امتلاك إيلون ماسك «تويتر»، لم تصل إلى حد تخيل إمكانية تدميره لمنصة بقيمة 44 مليار دولار في غضون شهر واحد. ولم أرغب في أن يكون السجل الوحيد الخاص بمدوناتي الصغيرة ملكاً لملياردير متهور يمر بأزمة منتصف العمر.
وإذا نجح «تويتر» في النجاة من الأزمة الراهنة والبقاء على قيد الحياة ـ الأمر الذي آمله من صميم قلبي ـ فإن تجربة وقوفه على شفا الموت كشفت لنا حقيقة أساسية تتعلق بحياتنا على الإنترنت: لقد تمت خصخصة المساحات الرقمية للحياة المدنية، الأمر الذي يضر بنا جميعاً.
جدير بالذكر هنا أنه قبل شراء ماسك لـ«تويتر»، سبق وأن أعرب أحد مؤسسي الموقع والرئيس التنفيذي السابق له، جاك دورسي، عن اعتقاده بأنه لا ينبغي لأحد امتلاك هذه المنصة، وأنه يرغب في أن يصبح «تويتر»، «منفعة عامة».
ويمثل «تويتر» المكان الذي أقضي فيه جزءاً كبيراً من حياتي. ويعود ذلك لأسباب منها أنني متحمس للغاية لنشر تغريدات تعبر عن آرائي، بجانب أن «تويتر» يسمح لي بتجميع كميات هائلة من المعلومات بسرعة كبيرة للغاية. وعلى عكس المنصات المقسمة حسب الاهتمامات («ريديت» على سبيل المثال)، فإن «تويتر» يشكل مكاناً يمكن الاطلاع من خلاله على مختلف وجهات النظر والخبرات.
بالتأكيد، من الممكن أن يخلق ذلك وضعاً خطيراً، لكن إذا ما عثرت على الأشخاص المناسبين، فإن بمقدورهم على الفور إطلاعك على كل شيء، بدءاً من التقلبات في أسعار الأخشاب إلى مشكلات الصيانة في أسطول الدبابات الروسي، إلى تقرير عن حارس المرمى الويلزي. وعليه، فإن «تويتر» لشخص في مجال عملي، منصة لا غنى عنها.
جدير بالذكر هنا أن «تويتر» كان قد بدأ منصة يحدث فيها الفرد المعلومات الخاصة بحياته، إلا أنه بمرور الوقت تحول إلى ما يشبه ساحة عالمية لعقد النقاشات والمحادثات. في الوقت ذاته، لم يكن «تويتر» قط جيداً بشكل خاص في كسب المال؛ ذلك أنه بالكاد ارتفع سعر سهمه منذ يوم طرحه للاكتتاب العام. ومن حيث عدد المستخدمين العالميين، فإنه لم يتمكن قط من تجاوز «فيسبوك». ومع ذلك، اقترب «تويتر» من تطبيق الرؤية الأساسية لما يمكن أن يبدو عليه «الميدان العالمي».
ولذلك، كان هناك الكثير من التخوف عندما اشترى ماسك الموقع، ذلك أنه لا ينبغي أن يمتلك رجل واحد كل هذه القوة. وفي أقل من شهر، تجلت جميع المخاوف الأسوأ تقريباً. دفع ماسك المعلنين للفرار من الموقع بأعداد كبيرة، وقلص عدد الموظفين بشكل جذري لدرجة أن الوظائف البسيطة مثل عملية التحقق الثنائية تعطلت بعض الأحيان، وثمة خطر أن يتعطل الموقع بأكمله ببساطة ويتوقف عن العمل تماماً.
من ناحيته، اشترى ماسك «تويتر» لأنه ببساطة مدمن للموقع، أو إذا أردنا التحديد أكثر، فإنه مدمن بشدة على محاولة جذب الانتباه عبر الإنترنت. وفي أول يوم له في «تويتر»، تجول حول حوض بأحد الحمامات ليطرح مزحة غامضة للغاية عبر الإنترنت سخر خلالها من فئة معينة من مستخدمي «تويتر» المتحمسين (عادة ما يكونون ليبراليين).
أما الرسم البياني الذي نشره ماسك بخصوص الوقت الذي يقضيه عبر «تويتر» فيبدو أشبه برسم بياني لدرجات الحرارة العالمية. الواضح أنه عاجز عن منع نفسه من الدخول إلى «تويتر» وإدمانه له. والواضح كذلك أن ماسك شخص لديه الملايين من المتابعين، ويغرق نفسه تماماً في الردود والتعليقات، ويقضي وقتاً طويلاً في متابعة ما يقوله الناس عنه. ومن خبرتي، أقول لكم إن هذه هي الطريق إلى الجنون ـ وإن كانت طريقاً يوجهك نحوها «تويتر» وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى بلطف.
ومع أنه من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان «تويتر» سيموت بالفعل، نجد بعض الأحيان أن المزاج العام السائد بالموقع يتبدل بسبب بعض الأخبار ـ على سبيل المثال، خبر إصابة دونالد ترمب بفيروس «كوفيد» ـ الأمر الذي يثير شعوراً لدى الجميع بأنهم جزء من شيء ما.
فجأة بعد بيع الموقع، شعر مستخدموه وكأنهم جزء من عائلة كبيرة تودع عماً محبوباً، لكن يعاني مشكلات عميقة. ولبعض الوقت، بدا أن المعارك التي لا تنتهي والإهانات والصراع قد تراجعت وحلت محلها ذكريات دافئة عن أطرف اللحظات معاً التي لا تنسى. وتراجعت السخرية وأفسحت مجالاً للحديث الجاد، مع إدراك الناس أن ثمة أمراً بالغ الأهمية كان يجري لسنوات على الموقع، ولا يمكن أبداً استبداله. في هذا الصدد، قال الكاتب ومضيف البودكاست سام أدلر بيل مازحاً: «قل ما تشاء بشأن أسلوب إدارة إيلون، لكن تظل الحقيقة أنه قبل أن يستحوذ على الموقع، كان هناك شعور بالملل في الموقع، أما اليوم فقد أدركنا جميعاً كم أن (تويتر) مكان رائع؛ حيث التقينا جميع أصدقائنا الرائعين وبدأنا حياتنا المهنية وتحدثنا عن خصوصيات حياتنا الشخصية».
ويمكن لـ«تويتر» أن يكون مضحكاً وقاسياً، تماماً كما يمكن للبشر أن يكونوا مضحكين وقاسين. في الواقع، يمكن للبشر أن يكون بداخلهم الكثير من الأشياء المختلفة، وكل هذه الأشياء معروضة عبر «تويتر».
تركز حلم الإنترنت المبكر حول استخدام التكنولوجيا الرقمية لتوسيع نطاق المعرفة البشرية والمجتمع. على امتداد الجزء الأكبر من تاريخ البشرية، تشكلت المجتمعات ضمن قيود جغرافية قوية، لكن الإنترنت، أكثر من أي تقنية بشرية أخرى، فتح الباب أمام التواصل الاجتماعي المتحرر من قيود الجغرافيا.
في الرؤية المثالية إلى حد ما لبناتها ومستخدموها الأوائل، من المفترض أن يشكل الإنترنت مكاناً يمكن فيه للناس عبر مختلف المشارب ومن مختلف الأماكن أن يجد بعضهم بعضاً لبناء مجتمع والتحدث والنقاش والسعي لتحقيق المصالح المشتركة.
بجانب ذلك، لم يكن لدى الناس من قبل إمكانية الوصول إلى مثل هذا الكم الهائل من المعلومات والمنشورات المثيرة لاهتمامهم. وعلى أيدي المهندسين الأذكياء ورجال الأعمال الطموحين، جرى تعظيم القدرة على جذب انتباهنا وتسليعها وتحقيق الدخل منها لتزويدنا بما لدينا الآن، عالم من المشاركات اللانهائية والإشعارات المستمرة.
وبغض النظر عما يحدث لـ«تويتر»، فإن مشاهدة إدارة ماسك للموقع يجب أن تجبرنا على إعادة بناء حلم مؤسسي الإنترنت بخصوص المساحات الرقمية المشتركة. ونظراً لأننا حصلنا عليها من قبل، فإننا ندرك أنه يمكننا توفير مكان للتواصل والتعلم لا أحد يمتلكه. إن باستطاعتنا بناء حياة رقمية جماعية لا تعتمد على استغلال كل نانو ثانية من اهتمامنا لتحقيق أرباح مادية.

* إعلامي ومقدم
برامج أميركي
* خدمة «نيويورك تايمز»