أناند غيريدهاراداس
TT

أميركا... التبني الشعبي العميق لبعض الخرافات

في السنوات الأخيرة، تضخمت نسبة المواطنين الأميركيين الذين ينتقدون أصحاب المليارات في البلاد. لكن في الأسبوع الاستثنائي الذي انقضى، تعرضت تلك الشريحة من المواطنين لقضية أعلى بكثير وأكثر إلحاحاً ضدهم. قضية من صناعة أصحاب المليارات أنفسهم.
واحداً تلو الآخر، أقدم أربعة من أشهر أصحاب المليارات لدينا على إهدار صورة المنقذين الخيّرين التي رسَّختها طبقتهم الموسرة بعناية فائقة.
إنها تضحية جديرة بالثناء من جانبهم، لأن أصحاب المليارات، كما نعرف تماماً، يوجدون لإسعادنا جميعاً. وإذا ما قرَّر عدد كافٍ من المواطنين الأميركيين التحرك، فبالوسع سن سياسات حماية العمالة، وفرض الضرائب، ومكافحة الاحتكار، والتدابير التنظيمية الأخرى التي تجعل من الصعب على أي شخص تكديس هذا القدر الهائل من الثروة، في حين يلتقط الكثيرون الآخرون فتات أرزاقهم من صناديق القمامة. ليست القوة السياسية الهائلة لأصحاب المليارات وحدها هي التي تجعلهم يحافظون على وجودهم، وإنما التبني الشعبي العميق لبعض الخرافات بشأنهم — خرافات الكرم، والعبقرية، والروح الأبية، فضلاً عن العلو والسمو والارتقاء لهم، ذلك على سبيل المثال لا الحصر.
حتى كتابة هذه السطور، يواصل إيلون ماسك الهبوط بموقع «تويتر»، مع فصل أو مغادرة أغلب موظفي الشركة، وارتفاع وتيرة انقطاع الخدمة، ويسارع كل الأشخاص على جدولي الزمني في الموقع إلى إخبار التطبيق بالأشياء التي كانوا يقصدونها، قبل أن يغادر عالمنا إلى «جنة أو جحيم» التطبيقات!
في تغريدة له عبر أحد أكثر الانهيارات المفتعلة التي شهدتها الشركات في التاريخ، كان السيد ماسك يقدم خدمة عامة وحيوية: تمزيق خرافة الملياردير العبقري.
وادعاؤه الخاص بالخير والإحسان يعكس أن عبقريته «التي لا يمكن احتواؤها» قادرة على حل أي معضلة. وهو الآن يُفرغ عقله ووقته على الأموال الإلكترونية، وعلى استعمار المريخ، وعلى السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، وعلى إنقاذ لاعبي كرة القدم التايلانديين المحاصرين في أحد الكهوف، وكذلك على تحرير الخطاب العام من مضطهديه الليبراليين الظالمين.
لطالما تقوض موقف السيد ماسك «العبقري» بسجل أعماله الفعلي، الذي يتحدد عبر نسب الفضل إلى نفسه فيما بناه الآخرون، فضلاً عن شكاوى من التمييز، وسوء الإدارة، والاحتيال.
لكن لم يتبدد ادعاء السيد ماسك بالعبقرية القابلة للتحويل بصفة لا نهائية حتى تولى إدارة «تويتر». ذلك أن ما سمّاه السيد ماسك «ساحة البلدة العالمية» يمكن أن يزول خلال فترة زمنية شديدة الإيجاز: ما بين تولي ومغادرة أنثوني سكاراموتشي وليز تراس منصبيهما، ما يجعل أحدنا يتساءل ما إذا كان ينبغي علينا أن نكون أكثر تشككاً في كل أصحاب المليارات الآخرين الذين يحملون أفكاراً «عبقرية» لمدارسنا، ونظمنا الصحية العامة، والسياسة.
على سبيل المثال، جيف بيزوس، مؤسس موقع أمازون، كان يؤدي مؤخراً دوره في تقويض ادعاء آخر عن الملياردير الخيري: أو موقف السخاء.
إذ أثار يوم الاثنين الماضي، ضجيجاً كبيراً عندما نشرت شبكة «سي إن إن» مقابلة أعلن فيها عن تبرعه بالجزء الأكبر من ثروته، التي تزيد على 120 مليار دولار، مع التركيز على مكافحة تغير المناخ وتعزيز الوحدة.
هذا بالطبع يبدو مثيراً للإعجاب، لكن خطوته تلك لم تكن تتعلَّق بالسخاء أكثر من محاولة إقناع الأطفال بضرورة ترشيح «هيرشل ووكر» لمجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا. الأموال التي يوزعها السيد بيزوس بشغف، تراكمت عبرَ ممارساتِه العمالية غير الإنسانية، وتجنبه المستمر للضرائب، واستغلال نفوذه الهائل، وسلطته الاحتكارية المعروفة، وغير ذلك من التكتيكات التي تجعله سبباً أصيلاً لمشكلات الحياة الأميركية الحديثة بدلاً من كونه حلاً مبتذلاً وربما متعجرفاً لها.
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت أعمال السيد بيزوس الخيرية سوف تساعد الآخرين، لكن المؤكد أنها سوف تساعد السيد بيزوس نفسه كثيراً. ويميل كبار المحسنين من أمثاله إلى التبرع عبر المؤسسات التي يؤسسونها بنحو يوفر عليهم مبالغ هائلة من الضرائب، وفي بعض الأحيان بمجرد نقل الأموال من حساب خاص بهم إلى حساب آخر فحسب. كما أن العطاء سوف يجلي سمعة السيد بيزوس، وبهذه الطريقة يحافظ ويحمي فرصته لكسب المزيد من المال، مع إلحاق المزيد من الضرر الاجتماعي.
سوف يزيد من سطوته الهائلة بالفعل على الحياة العامة. بالنسبة لكبار الأثرياء أمثال السيد بيزوس، قد يكون هذا أكبر مكسب يحققه على الإطلاق. إن ثروتهم هائلة للغاية لدرجة أنه بتوزيع ولو جزء صغير منها، فإنهم يشوهون الأجندة العامة نحو نوع التغيير الاجتماعي الذي يستطيعون تقبله — ذلك النوع الذي لا يهددهم ولا يهدد طبقتهم. قبل وقت قصير من إعلانه الكبير، منح السيد بيزوس المطربة دوللي بارتون «جائزة الشجاعة والكياسة» بقيمة 100 مليون دولار لتنفقها على قضاياها المختارة. إن السيدة بارتون شجاعة ومعنية بالقضايا المدنية بحق، لكن العمال أيضاً يناضلون لإنشاء نقابة عمالية لتوحيد منشآت أمازون، ولا أرى أحداً يقدم لهم مكافآت شكر من تسعة أرقام!
لكن مرة أخرى، وبدلاً من اضطرار النقاد المعتادين إثبات هذه القضية، تولى السيد بيزوس الدفة هذا الأسبوع. بعد دقائق من إعلانه عن العمل الخيري على شبكة «سي إن إن»، تناقلت الأنباء أن شركة أمازون تعتزم إقالة الآلاف من العمال، مُذكراً الجميع بما كان يحدث بالفعل.
ثم وبطبيعة الحال، كان هناك سام بانكمان - فرايد، ملك العملات المشفرة المشين الذي تسبب سقوطه المذهل، إلى جانب سقوط شركة «إف تي إكس» التي أسسها، في اختفاء 32 مليار دولار دفعة واحدة، تلك الأموال التي ينتمي الكثير منها إلى مئات الآلاف من الناس العاديين.
* خدمة «نيويورك تايمز»