جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا على صفيح ساخن

شهدتْ العاصمة الليبية، في آخر الأسبوع المنقضي، اشتباكات مسلحة دامية استمرت قرابة 48 ساعة متواصلة بين اثنين من أكبر الجماعات المسلحة عَدداً وعُدّة. الأولى يطلق عليها اسم «قوة الردع» وتتبع وزارة الداخلية، ومكرّسة لتعقب ومكافحة الجريمة بجميع أنواعها. والثانية تسمى «ثوار طرابلس» وتتبع رئاسة مجلس الوزراء، وأوكلت إليها مهام الحرس الرئاسي. الاقتتال نشب فجأة بسبب قيام الحرس الرئاسي باختطاف واعتقال ضابط تحقيق تابع لـ«قوة الردع». خلال فترة الاقتتال لم يصدر بيان أو تصريح أو طلب بوقف الاقتتال من أي مسؤول، في المجلس الرئاسي أو من الحكومة، أو من البرلمان، أو من المجلس السيادي. الاقتتال بدأ في منطقة وسط طرابلس، وانتقل إلى مناطق أخرى في شرقها، بسرعة. الهدف حسب ما تبيّن رغبة «قوة الردع» في القضاء المبرم على قوة «ثوار طرابلس». وزارة الداخلية، فيما يبدو جبراً للخواطر، أصدرت أغرب بيان من الممكن أن يصدر عن جهة أمنية مسؤولة على فرض الأمن والحفاظ عليه. البيانُ الغريب أكد أن مهمة الوزارة تقتصر على الحفاظ على الأمن وليس فرضه!!
عقب وقف الاقتتال ظهر رئيس الحكومة السيد عبد الحميد الدبيبة، وأصدر قراراً بتوقيف وزير الداخلية عن ممارسة مهامه وتعيين وزير الحكم المحلي مكانه. الوزير البديل في أول تصريح له قال إن الضجّة المثارة حول الاقتتال اتسمت بمبالغة إعلامية! ستة أشخاص مدنيين أبرياء قتلوا من جراء إصابتهم برصاص عشوائي أو شظايا قذائف، من بينهم طفل في الثانية عشرة من عمره وامرأة وولديها، حسب بيانات صدرت عن مؤسسات صحية رسمية. وعشرات آخرون أصيبوا بجروح، بالإضافة إلى خسائر في أبراج وخطوط توصيل الكهرباء، والممتلكات العامة والخاصة. اللافت للانتباه أن الجهات المسؤولة اكتفت بالصمت ولم تحرّك ساكناً. وطويت الصفحة بصمت معهود، وكأن ما حدث لم يكن. رئيس الحكومة في محاولة منه لامتصاص السخط الشعبي العارم، بادر بزيارة الجرحى في المستشفيات.
على عكس الجماعات المسلحة في دول أخرى، تتميز الجماعات المسلحة في ليبيا، غرباً وشرقاً وجنوباً، بكونها تابعة للدولة اسمياً. وقياداتها وأفرادها يتلقون رواتبهم من الدولة. بمعنى أنهم جميعاً يأكلون من قصعة واحدة، وهي الخزينة العامة، وكلهم يتنافسون على نهب أموال الدولة بشتّى الطرق والوسائل غير القانونية، ويتاجرون في تهريب الوقود والبشر والخردة والمخدرات. وأغلبهم يقيمون في معسكرات في أحياء ذات كثافة سكانية. ولا يتورعون مطلقاً عن القتل والتدمير لدى نشوب أي خلافات بينهم، من دون أدنى اعتبار لأرواح المواطنين وممتلكاتهم.
المعارك الأخيرة في طرابلس أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، وَهم المراهنين على إمكانية إعادة بناء دولة بمؤسساتها في وجود جماعات مسلحة، برايات عقائدية مختلفة، وفي صراعات مستمرة على نهب المال العام والنفوذ. وبرهنت على أن الأزمة الليبية أكثر تعقيداً مما يظن البعض. والأهم من ذلك أن مفاتيح أقفالها، بعلم الجميع، توجد في أيدي عواصم دول عربية وإقليمية وأوروبية. وأن اللاعبين المحليين، من سياسيين وعسكريين، لا يعدون أن يكونوا مجرد دُمى تحرك بخيوط من تلك العواصم، وتنفذ ما يطلب منها. وأن اللاعبين الأجانب والمحليين على اختلافهم يتفقون على فعل المستحيل مقابل ألا تعقد انتخابات نيابية ورئاسية. تجربة السنوات العشر الماضية خير دليل. وأن الليبيين في أوضاعهم المأساوية ومعاناتهم، لا يختلفون عمن فرّ ناجياً بحياته من براثن غول فوقع فريسة سهلة بين مخالب وأنياب قطيع ذئاب شرسة وجائعة.
الميليشيات المسلحة والدولة لا تلتقيان مطلقاً. وجود إحداهما ينفي وجود الأخرى. التجربة اللبنانية المُرّة مع الميليشيات تؤكد ذلك. وكذلك التجربة الصومالية. ولا يمكن بأي حال، وتحت أي مبرر، الحديث عن دولة ليبية مستقرة ما دام الوضع الميليشياوي قائماً ويتمدد في كل أنحاء البلاد.
وليس بمقدور أي جسم سياسي فعل أي شيء ما دام السلاح في قبضة أيادي جماعات تفرض على الأرض واقعاً بالقوة. وهذا السبب، تحديداً، دفع الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها على نهج سلوك انتهازي تمثل في شراء نفوذ لدى تلك الجماعات بغرض الحفاظ على نفسها واستخدامها ضد خصومها، وخصصت لها ميزانيات ضخمة استثنائية مقابل ضمان ولائها.
التوتر السياسي والعسكري حالياً سيد الموقف، وعدواه انتقلت سريعاً إلى مدينة مصراتة، على بعد 200 كيلومتر شرق طرابلس، حيث وصل إليها مؤخراً رئيس حكومة الاستقرار الوطني فتحي باشاغا. ووقعت اشتباكات مسلحة بين رتل من لواء عسكري يتبع رئاسة حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، ومجموعة مسلحة محلية مؤيدة للسيد باشاغا. وتدخل أعيان المدينة لحسم الأمر، ووقف الاقتتال. لكن الإحساس العام هو أن البلاد جميعها قد أعياها وأرهقها تواصل مسلسل الوضع المأساوي وتداعياته السلبية، وأضحت القلوبُ مثل قدور ماء يغلي على نار حامية، ولا يستبعد انفجارها في أي لحظة. حفظ الله ليبيا وشعبها.