أصدر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قبل فترة قصيرة مختارات شعرية له اقتصرت على خمسين قصيدة ارتأى أنها تعكس أهم معالم عالمه الشعري طوال ستة وخمسين عاما. وهي عملية أشبه بعملية جراحية كبرى ولكن بلا تخدير، بل على العكس تتطلب وعيا يقظاً، وحساً نقدياً عالياً يمارسه الشاعر على نفسه، بل على حياته الإبداعية كلها، وهي مهمة شاقة ومؤلمة. فليس سهلاً على أي مبدع أن يتخلى عن شيء من نتاجه خاصة أن الأمر لا يتعلق بنتاجات أولى قد تفتقر للنضج الفني، وبالتالي من السهل إهمالها، وإنما يطال حتى النتاج المتأخر. وقبل هذا وذاك، يعبر ما قام به حجازي عن شجاعة نفتقدها في حياتنا الأدبية، فلم نقرأ أو نسمع قبله أن شاعراً قد «غربل» شعره، واختار من القصائد ما يعتقد أنها تمثله خاصة بعد مسيرة طويلة غنية، كمسيرة حجازي الذي ينتمي لجيل الحداثة الشعرية الثاني بعد جيل السياب والبياتي ونازك الملائكة، والذي احتل مكانته بين شعراء جيله منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى «مدينة بلا قلب» عام 1956.
نعم، لقد أصدر عدد من الشعراء العرب المعاصرين «مختارات شعرية». لكنها في الحقيقة ليست مختارات، بل تجميع لمجموعات شعرية سابقة في كتاب واحد من دون أية غربلة. وربما عائد ذلك إلى «نرجسيتنا»، فنرى أن كل ما خططناه منذ بداياتنا يستحق الخلود.
من المعروف أن من التقاليد الشعرية الأوروبية أن يصدر الشعراء مختارات لهم تغطي فترة معينة من نتاجهم، أو، وخاصة في فترات متأخرة من حياتهم الإبداعية، يصفّون نتاجهم الذي قد يكون ضخما، فيختارون قصائد يعتقدون أنها الأفضل من غيرها فنيا، أو أنها تمثل مراحل أساسية في تطورهم، وتعكس أكثر من غيرها تجربتهم الشعرية مع توفر الشروط الفنية والجمالية، مهملين كماً، قد يكون كبيراً، من نتاجهم الشعري.
الشعراء الموتى يتعرضون هم أيضاً لمثل هذه الغربلة على أيدي الآخرين. ويستطيع القارئ أن يجد في مكتبات الأمم المحترمة مختارات لكل شاعر مهم تقريباً، منذ شكسبير لحد الآن، إذا تحدثنا عن الشعر الإنجليزي، وبشكل مستمر لا يكاد أن يتوقف. لماذا على القارئ غير المختص أن يقرأ، مثلاً، مئات القصائد لجون ملتون أو جون دُن أو وليم وردزورث أو وليم بليك؟ المختارات الشعرية لمثل هؤلاء الشعراء تغنيه عن ذلك، وتقدم له عوالمهم الشعرية كاملة عبر قصائد تعكس جوهر تجاربهم، وأهم سماتهم وخصائصهم، بالإضافة إلى مقدمات وافية.
وطبعاً هذه المهمة العسيرة لا يمكن أن يقوم بها غير نقاد مختصين، وشعراء معروفين تكلفهم جامعات عريقة، مثل أوكسفورد أو كمبردج، أو دور نشر محترمة مثل «فيبر آند فيبر» و«بنغوين» للقيام بهذه المهمة.
عربياً، ما زلنا نفتقد هذا التقليد النبيل والضروري، المرتبط بالطبع بالتطور الحضاري والثقافي لأمة ما. وربما لهذا السبب، نفتقد لمختارات شعرية لامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس والمتنبي والمعري على سبيل المثال. ويصح الأمر على شعرائنا المعاصرين، إذا استثنينا كتاب أدونيس «مختارات من شعر السياب»، ومختارات ماجد السامرائي من شعر السياب أيضاً، على ما نذكر. ربما هناك مختارات أخرى لشعراء قدامى أو محدثين، لكنها تبقى قليلة جداً قياساً بديوان الشعر العربي الضخم، الذي لا يستطيع أن يحيط حتى ببعضه قارئنا المعاصر.