من لم يشاهد شمال غربي المملكة العربية السعودية - وبخاصة مدينة العلا التاريخية، الواردة في القرآن الكريم باسم الحِجْر على وادي القُرى المكتظّ بزراعة النخيل، وتشمل مدائن صالح ومملكة دادان ولحيان (الخريبة شعبيًّا) ويضاف إلى الحجر مدينتا تيماء ودومة الجندل - فلن يصدّق بأنه يحتضن مخزوناً من الآثار يحاكي زمناً ومعالم وشواهد محميّات البتراء وجرش والأهرامات، وينافسها بالتكوينات الرملية والجبلية العجيبة التي يندر - بلا مبالغة - أن يشاهد المرء مثلها في العالم أجمع.
هذا الجزء الفريد من شبه الجزيرة العربية تعود أجزاء منه إلى عصور ما قبل التاريخ، بينما تعود الأجزاء المتوسطة منه إلى عهد ثمود وقوم صالح وبابل والآشوريين، والأجزاء الأحدث إلى الأنباط، وقد ورد ذكر بعض أقوامه في القرآن الكريم، وذكرت بواديه وحواضره في الشعر العربي القديم وبخاصة شعر بني عذرة، ومنهم جميل بثينة الذي عاش في العلا في القرن الأول من الهجرة النبوية، وهو القائل: «ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً... بواد القُرى إني إذن لَسعيد».
وقد صُنّف الموقع بجدارة عام 2008، ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو، وعملت هيئة السياحة والآثار السعودية في السنوات الأخيرة، بالتعاون مع أقسام التاريخ والآثار في الجامعات ومع عدد من البعثات الفرنسية والإيطالية وغيرها، على إعادة تأهيل المواقع التاريخية والمحافظة عليها، وتكثيف عمليات الاكتشافات والتنقيب، وتجهيز المتاحف وتهيئتها لاستقبال السياحة المنتظمة من الداخل والخارج، ولإغراء المستثمرين بالجدوى الواعدة لمشروعاتها السياحية، واستكملت هيئة الطيران المدني بناء مطار مكتمل الخدمات لاستقبال الرحلات الداخلية والعالمية، وذلك فضلاً عن مرافق الفندقة والعلاج والإقامة والمواصلات لكل فئات الزائرين في المواسم والعطلات والإجازات الأسبوعية.
محميّة «مدائن صالح» ذائعة الصيت تاريخيًّا في المنطقة، ظلت مغلقةً عبر السنين، وهي تتكوّن من عشرات البيوت المحفورة في الجبال العالية وفي الأودية، والقبور والمعابد ومحاضن المياه، وتضمّ المئات من النقوش المعينية واللحيانية، وهو ما يدلّل على وجود حضارات سادت ثم بادت عبر القرون الغابرة.
وعبر تلك المحمية على موازاة طريق التجارة القديم بين الشام والحجاز، تمرّ سكة حديد الحجاز التي أقامها العثمانيّون أوائل القرن الماضي بأموال المتبرعين المسلمين، لتربط عاصمة الخلافة الإسلامية إسطنبول بالمدينة المنورة، وبنيت محطاتها مع مرافقها التشغيلية بطراز معماري فريد، وبعد أن دمّرها الإنجليز عام 1916، بقيت نماذج من عرباتها وقاطراتها الألمانية الصنع التي كانت تعمل على الفحم، شاهدةً إلى اليوم على التحوّلات السياسية والنزاعات الدولية بين الترك والإنجليز بمشاركة القوى المحليّة.
لقد كان من المنطقي أن يتأخر فتح باب السياحة الداخلية والخارجية لمدائن صالح وما حولها، حيث بقيت مواقعها مغلقةً لاستكمال جهود الاكتشافات والحفريات والتنقيب والتأهيل. أما اليوم، فمدائن صالح وما جاورها تمتلك من المقوّمات ما يجعلها مشروعات استثماريّة جديرة بتنظيم الرحلات التثقيفية والسياحية، بل والترفيهية القائمة على الرياضة الصحراوية، حيث تشكّل التكوينات والكثبان الجبلية والرملية عجائب لا تقل دهشةً وروعة عن عجائب الدنيا الصخرية المعروفة.
واليوم أيضاً، تشهد السعودية صحوةً أثريةً نشطة تغيّرت فيها نظرة المجتمع إيجاباً نحو الآثار والتراث المعماري، وتعيش حركة جادة تتّخذ من محميّة مدائن صالح نموذجاً لمحميّات أثرية أخرى تقاس عليها وتنتظر دورها في التصنيف على قائمة التراث العالمي لدى اليونيسكو، حيث سيكون السائح قريباً على موعد مع مواقع ومتاحف جديدة للآثار في الأخدود بنجران والفاو والدرعية ووسط جدة والأحساء وفي غيرها من الأماكن المنتشرة في أنحاء شبه الجزيرة العربية، وذلك فضلاً عن المواقع الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة وما حولهما، وسيكون للمستثمرين فرص واعدة لتوظيف المال ثقافيًّا وحضاريًّا وتنمويًّا في خدمة السياحة والآثار.