عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

السحر الحلال... محمد بن سلمان

السحر حلالٌ وحرامٌ، والسحر غموضٌ، والغموض مفيدٌ ومضرٌ، مفيدٌ حين يتم توظيفه بشكل صحيح، ومضرٌ حين يتم توظيفه بشكلٍ سيئ، فالساحر تهمة حين يطلق على الأنبياء والرسل، ولكنه مزية وفضيلة حين يتم إطلاقه على البارعين والمبدعين في أي مجالٍ وأي فنٍ، ومحمد بن سلمان سحر الناس بالسحر الحلال.
تحدث هنري كيسنجر عن «الغموض البناء» كاستراتيجية ما، واستخدم الخرافيون القدماء الغموض لترويج «الشعوذة»، والأمير محمد لا يستخدم «الغموض»، بل على العكس تماماً فهو يعتمد وبشكل منهجي ومكثف وثابت على «الوضوح» و«الشفافية»، ورؤيته «السعودية 2030»، وكل برامجها المساندة لها في كل مناحي الدولة والحياة، معلنة ومنشورة بكافة التفاصيل الدقيقة والمراحل والأرقام، لا في السعودية فحسب، بل في العالم أجمع، ويمكن قراءتها بغالب لغات العالم، وهذا سحر الوضوح لا الغموض.
رؤية ولي العهد السعودي التي هي مشروعه يواجهها «مشروع لإفشالها»، وهذا المشروع لإفشال رؤية «السعودية 2030» له أطراف دولية وإقليمية ومحلية، دولٌ وجماعاتٌ وأفرادٌ، والأمير قال: «هناك العديد من الناس الذين يريدون أن يتأكدوا أن مشروعي يفشل، ولكنهم لن يستطيعوا المساس به، ولن يفشل أبداً، ولا يوجد شخص على هذا الكوكب يمتلك القوة لإفشاله»، وأضاف: «ولا أريد أن أوجه اتهامات لأحد، فهناك مجموعات قليلة يستطيع أي شخصٍ يمتلك معرفة جيدة أن يحدد الصلة بين تلك المجموعات في الغرب، والمجموعات في الشرق الأوسط، الذين لديهم مصالح في أن يرونا نفشل».
في 2018، تحدث الأمير لصحيفة «التايم» الأميركية عن خطورة «الإخوان المسلمين» و«السرورية»، وتحدث من قبل ومن بعد عن العودة إلى الإسلام ما قبل تشويه جماعات «الإسلام السياسي» له، وتحدث عن التطرف، وتكلم مع الأستاذ عبد الله المديفر 2021 بحديث تفصيلي عن رؤيته لمسائل الهوية والشريعة والإسلام بشكل غير مسبوقٍ وبوضوح حجة وقوة منطقٍ، وفي لقائه هذا الأسبوع مع مجلة «ذا أتلانتيك»، وضع النقاط على الحروف بكلام يمكن وصفه بالتاريخي والاستثنائي، لا للسعودية فحسب، بل للعالمين العربي والإسلامي والعالم أجمع.
رؤى الأمير تتحول في السعودية سريعاً إلى «مشاريع» و«برامج»، وتحقق النجاحات والإنجازات، ولكن هذه الجوانب - تحديداً - تأخرت لأسبابٍ متعددة، منها أن التغيير فيها يحتاج وقتاً لإنضاجها، ومنها أن البعض عاجزٌ عن استيعاب أفكار الأمير وعمقها وشمولها ومآلاتها المستقبلية، ومنها أن بعضها أشمل بكثير من السعودية كدولة، بل هي تشكل مخرجاً حضارياً لكل الدول المسلمة، ومنها أن البعض يريد «إفشالها»، كما قال الأمير، ولئن شارك بعض المراقبين والمهتمين في استغراب التأخير، فلقد أوضح الأمير أن بعض تلك الأفكار قد تحول بالفعل لمشروعٍ ثقافي سيرى النور خلال سنتين فيما يتعلق بـ«الأحاديث النبوية».
كل ما قال الأمير مهمٌ، ولكني سأعلق بما تسمح به هذه المساحة حول مسائل الهوية والتاريخ والإسلام، وحول التطرف والمجتمع و«الآيديولوجيات»، قال الأمير: «دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلدة، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا»، وأكد أننا «نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الأربعة الراشدون، حيث كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة»، وقال عن المتطرفين والمتشددين: «المشكلة هي انعدام وجود من يجادلهم ويحاربهم بجدية»، وقال: «تلعب جماعة الإخوان المسلمين دوراً كبيراً وضخماً في خلق كل هذا التطرف... وعندما تتحدث إليهم لا يبدون كمتطرفين، ولكنهم يأخذونك إلى التطرف».
ثم تحدث بحديث محكمٍ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقال: «أما فيما يخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو كسائر الدعاة وليس رسولاً، بل كان داعية فقط، ومن ضمن العديد ممن عملوا من السياسيين والعسكريين في الدولة السعودية الأولى»، وتحدث تفصيلاً عن أن «المشكلة في الجزيرة العربية آنذاك أن الناس الذين كانوا قادرين على القراءة أو الكتابة هم فقط طلاب محمد بن عبد الوهاب، وتمت كتابة التاريخ بمنظورهم، وإساءة استخدام ذلك من متطرفين عديدين»، وأضاف الأمير: «الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس السعودية، فالسعودية لديها المذهب السني والشيعي... ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية».
هذا الحديث الشامل والعميق يفتح حرية جديدة في تناول التاريخ بأدواتٍ علمية متخصصة حديثة ومتطورة، ويمكن أن نهنئ المؤرخين المستقلين، وأقسام التاريخ في الجامعات، والمؤسسات البحثية التاريخية، والباحثين الجادين، بعصرٍ جديدٍ يفتح أمامهم فرصاً حقيقية لإخراج «المسكوت عنه»، وتناول «المحظور» سابقاً بسبب شبكة معقدة من الأسباب والذرائع والمصالح، فقد أصبح الباب مفتوحاً والطريق لاحباً.
يجب أن ينتبه الجميع إلى أن مراحل انتصار الدول لنفسها ولتاريخها وهويتها هي مراحل حساسة تحتاج لعقلٍ وحكمةٍ، ويجب ألا تشوبها شائبة من «تصفياتٍ» أو انحيازاتٍ أو تجنٍ على أحدٍ، مناطق أو قبائل أو عوائل، فالهدف هو خدمة الحاضر والمستقبل وتكريس الوحدة وبناء الأجيال.
بعد قرونٍ من حكم آل سعود للدرعية، جاء محمد بن سعود، وأقام دولة وظف لها كل الطاقات والإمكانات، وتجاوز التحديات، وبنى مستقبلاً، وبعد سقوطها قام تركي بن عبد الله، وأعاد الدولة، وتجاوز التحديات، وبعد سقوطها جاء عبد العزيز وأقام المملكة العربية السعودية، وتجاوز التحديات، وأنار الطريق، وفي هذا العصر أتى محمد بن سلمان، وتجاوز التحديات، ووظف كل الطاقات، وأنار السبل، وعلم العالم وعلم السعوديين عن إمكانات لم يسمع بها أحد ولم يفكر فيها إنسان قبله، وقماشة مؤسسي الدول من خامة واحدة، وإن اختلفت العصور والظروف.
القادة الذين يغيرون التاريخ قلة، وتجتمع لهم - على طول التاريخ وعرض الجغرافيا - مواهب يحسبها الناس «سحراً» لعجز الناس عن تفسيرها، فالقادة يرون ما لا يراه الناس، وإن شاركهم بعض الناس بعض الاختصاص، فإنهم لا يشاركونهم في بناء الاستراتيجيات وجودة الإدارة وقوة القرار وتحقيق الأهداف ونيل الغايات.
في أسئلة الصحافي الأميركي تأثرٌ واضحٌ بأفكارٍ ليست ودية تجاه الأمير وتجاه السعودية، والإجابات تتحدث عن نفسها في فهم المقاصد المخفية، وفي نقد الذات والاعتراف بأخطاء الماضي البعيد والقريب، فالهدف هو النجاح، والغاية هي المستقبل.
أخيراً، فالسياق هنا وصفي بحتٌ، لا ثناءً ولا نقداً، لا مدحاً ولا ذماً، بل مقاربة للصورة وعكسٌ للواقع وتوضيحٌ لمآلات الأفكار ونتائج الرؤى.