بدأت عمليات الاعتقال تزداد بصورة كبيرة مع انطلاق الحراك الشعبي السوري، في مارس (آذار) 2011، وتركزت في بداياتها على المشاركين في المظاهرات وحركات الاحتجاج الأولى بهدف الحد منها، وتوسعت سريعاً؛ حيث شملت المتظاهرين والمحتجين في المدن والقرى وفي الجامعات والمعاهد، وامتدت للناشطين المنظمين في التنسيقيات، وخصوصاً العاملين في مجالَي الإعلام والإغاثة، في محاولات هدفها منع نشر الأخبار والمعلومات حول ما يجري، ومنع تقديم المساعدات الغذائية والطبية والإسكان للضحايا في التجمعات السكانية الثائرة، كما طالت فاعلين سياسيين في قوى المعارضة، بهدف منع تشكيل وإبراز مراكز قيادية للحراك الشعبي. ولأن عمليات القتل وما رافقها من اعتقالات توسعت إلى إخفاء قسري وقتل تحت التعذيب، لم توقف حركات التظاهر والاحتجاج، فقد لجأ النظام عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى اعتقالات عشوائية وكثيفة، وانتظم في هذه الجرائم الشبيحة وميليشيات اللجان الشعبية والدفاع الوطني.
ورغم أن نظام الأسد وأدواته المحلية، كانوا المسؤولين الأساسيين عن جرائم الاعتقال وما يليها، فإن قوى أخرى انضمت إلى قائمة مرتكبي تلك الجرائم، بينهم حلفاء النظام القادمون من الخارج، ولا سيما إيران والميليشيات الشيعية التابعة لها، وكذلك فعلت أطراف من خارج تحالف النظام، وأغلبها من الجماعات الإسلامية المتطرفة، وفي المقدمة «داعش» و«هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً)، وإلى جانبها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، والجيش الوطني، وبقايا تشكيلات المعارضة المسلحة. وطبقاً لتقارير منظمات حقوقية سورية، فإن نحو مليون ومائتي ألف حالة اعتقال تمت في الأحد عشر عاماً التي أعقبت الثورة.
لقد طرأ انخفاض في أرقام عمليات الاعتقال والإخفاء القسري في السنوات الأخيرة، بسبب عوامل متعددة ومعقدة؛ لكن الجرائم من حيث محتواها ودلالاتها ما زالت مستمرة، وهذا ما تؤشر إليه أرقام الشهر الأول من عام 2022، حسب «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي أكدت أنَّ ما لا يقل عن 143 حالة اعتقال تعسفي، تم توثيقها في يناير (كانون الثاني) 2022، وتحول 116 منهم إلى مختفين قسرياً، وتوزعت الجرائم حسب المرتكبين إلى 81 شخصاً اعتقلتهم قوات النظام، و37 اعتقالاً ارتكبتها «قوات سوريا الديمقراطية»، وتم اعتقال 8 أشخاص على يد «هيئة تحرير الشام»، وتوزعت بقايا تشكيلات المعارضة المسلحة والجيش الوطني 17 جريمة اعتقال.
ومما لا شك فيه، أن الاعتقال وكل ما يعقبه عمليات غير قانونية، وهذا الأمر لا ينطبق على سلطات قوى الأمر الواقع من الجماعات والتنظيمات المسلحة فقط، وإنما يشمل نظام الأسد أيضاً الذي يعتبر نفسه نظاماً «شرعياً» رغم كل ما ارتكبه من جرائم كفيلة بنزع شرعيته حتى لو كانت صحيحة. وعدم قانونية الاعتقال وما يلحقه يستند إلى غياب الإجراءات القانونية، وعدم الالتزام بمحتويات القانون، والأهم من ذلك أن محاكمة المعتقلين غير قانونية بغض النظر عن أسماء المحاكم، ومنها المحاكم الميدانية، وهي محاكم عُرفية خارج القانون ومتوحشة في أحكامها، وغالباً ما تصدر حكماً بـ«إعدام» المحالين إليها، وهي تتماثل في مكانتها مع شبيهاتها القائمة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، في شمال شرقي وشمال غربي سوريا أيضاً. ومحاكم النظام التي تستند إلى قوانينه، ومنها محكمة الإرهاب، والمحاكم العسكرية، ومحاكم الجنايات، لا تبعد كثيراً في مبناها ونتائجها في ظلم المحالين أمامها من المعتقلين؛ إذ تصدر أحكاماً متشددة تصل إلى الإعدام، بفعل تدخل الأجهزة الأمنية. ولا تتصل الأحكام بالأشخاص فقط؛ بل صارت الأحكام تشمل ممتلكاتهم التي تُحجز أو تُصادر من باب تشديد العقوبات. والمحاكم الأسدية - ومحاكم سلطات الأمر الواقع أيضاً - لا تحتاج إلى مبررات موضوعية لأحكامها في مطلق الأحوال.
ولا بد من ملاحظة أن طريق المعتقلين إلى المحكمة ليس طريقاً سالكاً ومتاحاً بصورة طبيعية. فكثير من المعتقلين يذهبون إلى الاختفاء القسري، فلا يعرف أحد عنهم شيئاً، وهناك قوائم طويلة للمختفين قسراً من ضحايا نظام الأسد وميليشياته وحلفائه، والتنظيمات المسلحة من تنظيمات إسلامية متطرفة وجماعات معارضة، وقوات «قسد» وتفرعاتها. وتشمل هذه القوائم رجالاً ونساءً وأطفالاً وقياديين وأشخاصاً عاديين. وقدرت مصادر حقوقية موثوقة عدد المختفين قسراً بـ99 ألف شخص، منذ انطلاق الثورة عام 2011.
ولا يقتصر منع الوصول إلى المحكمة على الإخفاء القسري؛ بل يشمل مسارين آخرين؛ أولهما القتل تحت التعذيب، وهذا الشكل من الجرائم مستمر منذ بدايات الثورة في عام 2011 في الفروع الأمنية جميعاً، وفي الوحدات العسكرية وميليشيات النظام والجماعات المسلحة، ولا يتم القتل فقط من أجل الحصول على معلومات واعترافات؛ بل يتم انتقاماً من المعتقلين، كما يتم من باب تسلي الجلادين أيضاً. أما المسار الثاني فيكون بالامتناع عن تحويل المعتقلين إلى المحاكم لسبب أو لآخر، ومنها الإبقاء على المعتقلين سجناء في الفروع الأمنية ومراكز الاحتجاز وسجن صيدنايا الذي وصفه كثيرون بـ«المسخ البشري».
ورغم أن الاعتقال وما يليه ويرافقه، يصب في هدف أساسي باعتباره عقوبة للسوريين في تمردهم على نظام الأسد وسعيهم إلى تغييره وصولاً إلى إقامة نظام بديل يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، فإن أهدافاً أخرى لعمليات الاعتقال تولدت في ذهنية النظام وأركانه، ثم امتدت إلى المراتب المختلفة من شبيحة النظام والموالين له؛ حيث كرسوا أهدافاً أخرى، بينها إشاعة الخوف والرعب لدى الجمهور الأوسع، ومثله هدف دفع مزيد من السوريين إلى مغادرة مناطق سيطرة النظام، وهو ما أعطى النظام وأركانه وشبيحته ومؤيديه فرصة الاستيلاء على ممتلكات النازحين، وتعفيش بيوتهم وممتلكاتهم بما فيها من مزارع ومحال تجارية ومكاتب، وهذا كله في إطار «المنافع غير المباشرة» لجرائم الاعتقال والإخفاء القسري. أما المنافع المباشرة فقد أخذت مسارات مختلفة، أساسها الحصول المباشر على أموال وعائدات عينية من أهالي المعتقلين ومن المعتقلين أنفسهم، وقد صارت هي الأخرى بين أهداف عمليات الاعتقال.
تبدأ عمليات حصول أركان النظام ومؤيديه والمرتبطين به على المال من أهالي المعتقلين من اللحظات الأولى التي تعقب الاعتقال، وحيث إنه لا يمكن التعرف على الجهات التي قامت بالجريمة، فإن الأهالي يشرعون بالسؤال، وهذا يكلف أموالاً بغض النظر عن الإجابات التي يتلقونها، ومعرفة مكان المعتقل ستكلف المزيد، أما إطلاق سراحه - إذا كان ممكناً أو محتملاً - فيكلف مبالغ خيالية، تدفع العائلة إلى بيع بيوتها وممتلكاتها، وقد تلجأ إلى الاستدانة من الأقارب والمعارف، وقد يطلب أصحاب القرار والوسطاء تنازل الأهل عن ممتلكات عائلة المعتقل لقاء الإفراج عنه. وهناك حالات كثيرة يتداولها السوريون عن أشخاص وعائلات دفعوا الكثير لكن لم يتم الإفراج عن أبنائهم.
وقدر تقرير «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» الأول، الصادر عام 2021، حجم الأموال التي دفعها سوريون لمعرفة معلومات عن ذويهم المعتقلين، ومقابل وعود بزيارتهم في أماكن الاعتقال، وإطلاق سراحهم، بما يقارب 900 مليون دولار منذ عام 2011 وحتى 2021.
في وقائع ملف المعتقلين كثير من المعطيات والتفاصيل التي تبين أهمية هذا الملف وخطورته، ليس من الناحية الإنسانية التي يعرفها الجميع؛ بل من نواحي الأهداف التي يحققها النظام، والمنافع التي يجنيها منه، وخصوصاً لجهة تمويل وإثراء أركانه ومؤيديه، وهذا ما جعله ويجعله يمتنع عن معالجة الملف بأي صورة كانت؛ بل إنه حشد تأييد حلفائه في الداخل والخارج لإبقاء هذا الملف خارج أطر البحث، وهذا من الأسباب التي جعلت كثيراً من السوريين في حالة يأس من حل ملف المعتقلين؛ خصوصاً أن تشكيلات المعارضة والفعاليات الثورية والمدنية لم تبذل جهوداً جدية في التعامل معه، مما جعل الملف رغم أهميته الإنسانية يتراجع في المستوى الدولي؛ سواء في اهتمامات الدول أو المنظمات الحقوقية والإنسانية.
وتحريك ملف المعتقلين والمختفين قسراً، والعمل الجدي عليه وصولاً إلى حله، ينبغي أن يكون في مقدمة مهام السوريين؛ سواء من جانب المعارضة وقوى الثورة ومنظمات المجتمع المدني، أو في المستوى الشعبي، ليس لأن الملف يهم أغلب السوريين، إن لم نقل كلهم، وليس لأن هذه القضية ينبغي أن تُحل بما فيها من انتهاكات إنسانية وحقوقية؛ بل إضافة لذلك فإن استمرار الملف ونتائجه يساهم في بقاء نظام الأسد، وما يمثله في استمرار الكارثة السورية وتداعياتها؛ ليس على السوريين فقط، وإنما على العالم من حولهم.
8:2 دقيقه
TT
وقائع في ملف المعتقلين السوريين
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة