حديث العالم اليوم يدور حول ما يجري عند الحدود الروسية - الأوكرانية. وبعيداً عمّا يُطرح من أنها حرب نفسية أو تضليل غربي أو خداع روسي أو تهويل إعلامي... إلخ، كل هذا لا يسترعي الانتباه بقدر ما أن المهم ما هو كائن وماثل على الأرض كالقوات الروسية مثلاً المنتشرة على أطراف الحدود الأوكرانية. ثمة تساؤلات موجعة مطروحة في خضم هذا القلق المتصاعد.
هل أصبحت الحرب هي الحل للصراعات والنزاعات ما بين الدول؟ وبعد ما شهدته البشرية من حروب وكوارث ومآسٍ ومعاناة وألم ودمار فهل يدور بخلد أي دولة في عالمنا تكرار التجربة المرعبة والتورط في حرب كونية؟ وكيف ينحدر العالم ويسقط في وحل القتل والدم ورائحة البارود والمجازر ورعب الصواريخ الباليستية خصوصاً ونحن في عصر المعرفة والتقنية والاختراعات والتشريعات والقوانين والعلاقات الدولية ومفاهيم حقوق الإنسان والتسامح والتعايش والعولمة والحداثة؟ وهل يمكن خلق مناخات ثقة لنظام الاقتصاد العالمي الذي يفترض أن يُبنى على التعاون ليستقر وينمو، والدول الكبرى تتنازع فيما بينها وبعيدة كل البُعد عن ساحة التوافق فيهدد بعضها بعضاً أو تلتهم دول أخرى بين ليلة وضحاها؟ أليس الحوار والجلوس إلى الطاولة والإصغاء هي الوسيلة الأنجع للوصول للحل وبالتالي إغلاق باب الصدام والعنف والحرب والتوتر؟ الذاكرة تعيدنا لتلك الأجواء المقلقة التي شهدناها مع قصة روسيا والقرم وكشفت حينها وبلا مواربة الصراع على النفوذ وعودة الحرب الباردة بين القطبين لا سيما بعد إصرار موسكو على تفكيك أوكرانيا، للهيمنة على شرقها آنذاك من ناحية وإقرار عقوبات اقتصادية أميركية - أوروبية على روسيا من ناحية أخرى.
كما أننا ومنذ سنتين نعيش حرباً عالمية غير مسبوقة مع «كوفيد - 19» إلا أننا نُفاجأ اليوم بنزاع علني وحرب وشيكة بين روسيا والغرب قد تدمِّر كل شيء وأي شيء وربما لن تماثل في مجموع خسائرها فيما لو حدثت ما نتج عن الحربين الأولى والثانية من ضحايا وتدمير وأهوال ومصائب وكوارث. ورغم أن العالم يواجه عدواً غير مرئي وخفياً وهو الذي ظهر لنا فجأة ومن دون مقدمات ومع ذلك لا يريد بعض قادة العالم التفرغ لمواجهة هذا الوباء وكذلك تبديد المخاوف تجاه ما يتردد في وسائل الإعلام، بل تجدهم على النقيض تماماً حيث التصعيد والمخاشنة والتعبئة والتحشيد العسكري، ما يعني أن على العالم مواجهة قَدَره وهو: خطر الحرب وإفرازاتها، وكذلك تداعيات فيروس شرس يجيد الانتشار. نعلم أن كارثة «كورونا» واقع جديد في عالمنا وشكّلت نمطاً جديداً للحياة الإنسانية كأنها صورة للحرب البيولوجية، إنما المأساة الكبرى أن حرباً منطلقها الحدود الروسية - الأوكرانية في حال وقوعها ستكون أمَّ الحروب كلها لأنها ستسحب الجميع وتجبر الجميع على الانخراط فيها، والضحية الشعوب كالعادة. المناخ لم يعد مريحاً. التعاون بين الدول أصبح يغلفه الشك والهواجس وعدم الثقة، والانقسامات الهائلة في العالم غير مسبوقة، والمماحكات السياسية بين الدول لا تُعدّ ولا تُحصى، والخلاف الأميركي - الصيني ما هو إلا بداية لصراع طويل المدى سوف ينعكس على الاقتصاد العالمي برمّته، ناهيك بالحرب الباردة الروسية - الأميركية التي تخفت حيناً ولكنها لا تغيب أبداً، وعودة قوية للشعبوية والمحيط والعزلة مقابل النظام العالمي الأممي والقواسم المشتركة بين الدول والمنظمات.
قبل أيام عادت بعض القوات الروسية إلى ثكناتها وهدأت الأمور نسبياً والتقطت الشعوب أنفاسها بعد القلق والتوتر، وعاد شيء من الاطمئنان إلى قلب العالم الذي ارتفع نبضه. بعض التفاؤل الحذر ساد الكوكب وإن كان ما يحدث على الحدود الروسية - الأوكرانية لم يعد في محيط التوقعات والتكهنات والتخمينات. المسألة كما يبدو ووفقاً للروس أنها تتعلق بأمنها القومي التي تمثل أوكرانيا فيه نقطة تماس مع حلف الناتو وبسبب موقعها الجغرافي وأصولها الديموغرافية. نتذكر سابقاً عندما وصل الرئيس الروسي بوتين إلى إقليم القرم في أول زيارة يقوم بها منذ ضم الإقليم إلى روسيا، وصف ما حدث آنذاك بأنه عيد الانتصار للوطن وأن السوفيات هم من أنقذوا أوروبا من العبودية.
الأمر له أيضاً علاقة بتوسيع تمركزها البحري في المنطقة، خصوصاً أن الشرق الأوكراني تاريخياً له ارتباط بروسيا بدليل الجالية الروسية الكبيرة (العرق الروسي يمثل الأغلبية في القرم بنسية 58%) بخلاف الغرب الأوكراني الذي يميل للغرب. موقع أوكرانيا يعد الجسر الذي يصل روسيا بأوروبا وبالتالي من الصعوبة بمكان أن تفرّط موسكو فيه.
الذي شجع الروس على اتخاذ خطوة جريئة كهذه هو تراخٍ أميركي وأوروبي مكشوف فضلاً على وجود دعم صيني للموقف الروسي. التقاعس أو التراجع الأميركي إن شئت على الخريطة الدولية كان سبباً رئيسياً شجّع روسيا على المضيّ في تنفيذ مخططها، بدليل سيطرتها على القرم من قبل ولم تجد معارضة جادة وما زال المسلسل الروسي مستمراً. هناك من يرى أن الأجواء العالمية الراهنة ستجعلها تلتهم كل أوكرانيا، بدليل أن نغمة واشنطن والاتحاد الأوروبي تدور حول عقوبات مشددة ستطبَّق بحق موسكو رغم علمهما بأنها لن تكون حاسمة ومؤثرة بالقدر المطلوب.
إنسان اليوم لم يعد يستسيغ مشاهد العنف والرعب والقتل التي شهدها العالم خلال العقود الماضية. بات يرفض كل تلك الملامح التي ينهشها العنف ورائحة الموت والبارود ومشاهد الدماء وأشلاء الجثث. صور مخزية ومؤلمة في آن واحد أخذت مواقعها في ساحات كثيرة ومناطق كثيرة والمؤسف أنها ارتُكبت لأسباب واهية في عالم يجمعنا كبشر. ومع ذلك أصبح الصوت الأعلى اليوم يندد بكل ذلك وينادي بالحوار وتعزيز مفاهيم التنوع والاحترام وتكريس قيم التسامح والتعددية واحترام الاختلاف وإقامة جسور التقارب الإنساني والحضاري والثقافي. العالم بحاجة إلى لحظة تأمل واسترخاء، تقوم على القراءة الهادئة العميقة بطريقة موضوعية وعقلانية ومن ثم علينا أن نحلم بعالم جديد حتى تتحقق ثقافة التسامح، وهي ما فتئت أن ترنو إلى مناخات التعايش والسلام، بدليل قرب الحضارات بعضها من بعض في عصرنا الحديث المعاصر، ما يجعل الحوار فيما بينها أكثر إلحاحاً من أي فترة تاريخية مرّت بها البشرية. وتبقى الإرادة السياسية المتزنة والحصيفة المفتاح لصنع السعادة البشرية إن أردنا الحقيقة.
TT
الحروب والبشرية والعالم... الانتكاسة الجديدة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة