واحد من أهم أوجه الصراع في حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي ومجموعته الأوروبية الشرقية وبين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية كان موضوع النظام الديمقراطي الذي تباهت به أميركا وبريطانيا وحلفاؤهما أمام الروس، ومجموعتهم من الدول التي استنسخت النظام الشمولي تحت شعار دكتاتورية البروليتاريا التي بَشَّر بها الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818 - 1883) وتوقعها في بريطانيا على فرضية وجود طبقة عمالية مقهورة، إلا أن ذلك لم يحدث، إذ نجحت ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917، في أن تشرع بتطبيقات حكم طبقة العمال والفلاحين، وفي الجانب الثاني كانت الرأسمالية تتطوّر لتنافس ذلك النظام بمنظومة سياسية ومجتمعية واقتصادية تعددية تسمح لجميع طبقات المجتمع وقواه السياسية بالدخول في سباق الوصول إلى الحكم دونما فرض طبقة أو نخبة معينة، إلا ما تتحكم فيه أدوات ووسائل الديمقراطية التي تفرض وجودها، من خلال صناديق الاقتراع ومنابر التعبير عن الرأي بحرية كاملة.
وبعيداً عن أوجه الصراع المتعددة الأخرى بين المجموعتين بقيت الديمقراطية ونظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وميزاتها تؤرق النخب الحاكمة في موسكو، وبقية عواصم المجموعة الاشتراكية، حتى تداعت أو ابتكرت صيغة تُزين فيها النظام الشمولي الذي تمارسه بإكسسوارات أو أدوات تشبه إلى حد ما نباتات الزينة التي تنمو في الظل، حيث أدركنا كائنات أخرى للزينة والإكسسوارات التي ابتدعتها دول المنظومة الأوروبية الشرقية إبان الحكم الاشتراكي، ولا أقول الشيوعي، لأنهم لم يرتقوا إلى تلك المرحلة حسبما جاء في النظرية الماركسية اللينينية، بل وسقطوا قبل الوصول إليها بمئات السنين، فقد كانت تتميز بتفرد حزب واحد لقيادة الدولة تحت شعار دكتاتورية ذلك الحزب، الذي قرر هو أيضاً أنه وحده يمثل الطبقات الكادحة وتحديداً العمال والفلاحين وأحياناً بعض البرجوازيين، كما تفعل الأحزاب الدينية اليوم في احتكارها تمثيل الرب والدين والحكم باسمه، وخلال سنوات من حكمهم بعد الحرب العالمية الثانية ابتدعوا أنواعاً جديدة للزينة السياسية، بعد أن أصبحت الوسائل الأخرى مكروهة لكونها برجوازية استهلاكية، وغير منتجة في بلاد هوسها الإنتاج، وكانت هذه الكائنات الجديدة أحزاباً تم تصنيعها وتجميلها لكي تكون حليفة للحزب القائد، ويمارس من خلالها مسرحياته الديمقراطية الشعبية في الانتخابات والمجالس البرلمانية الكوميدية، وهذه الأحزاب كانت للزينة فقط ليس إلا، وقد استنسخت لاحقاً من قبل بعض الأنظمة الجمهورية التي أنتجتها الانقلابات حيث صنعت مجالس تشريعية شعبية باستخدام الانتخابات المبرمجة.
ومن أبرز المستنسخات التي انتشرت في الجمهوريات الثورية كانتشار النار في الهشيم، وانتقلت من شرق أوروبا إلى شرقنا المتوسط هي أحزاب الزينة، التي استخدمت في انقلابيات الشرق الأوسط الجاذبة للتجارب بعيدة المدى، كواجهة ديمقراطية تعددية لتزيين أنظمتها الدكتاتورية في بيئة غارقة بظلمات الأمية الحضارية والأبجدية، تئن من البطالة والفقر المدقع الذي يُهشِّم طموحات أكثر من ثلث سكانها إلى يومنا هذا، بينما ينغمس قرابة الثلثين الآخرين في الولاءات الدينية المتطرفة والمذهبية المقيتة والقبلية العنصرية، ولعل النماذج التي أنتجتها الانقلابات في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغيرها كانت خير مثال على استنساخ التجارب الأوروبية الشرقية في صناعة أحزاب الزينة السياسية، والتي انهارت أمام أول زوبعة تواجهها، وانتهت إلى ما يسمى الربيع العربي الذي أحالها إلى فوضى عارمة فقدت خلالها كل مقومات الدولة ومرتكزاتها، وهذا ما اتضح جلياً بعد إسقاط هياكل تلك الأنظمة وأحزابها وأدواتها، حيث لم تنجح القوى المعارضة الداخلية في تغيير تلك الأنظمة، حتى تدخلت قوى أجنبية لإزالة هياكلها الإدارية وأدخلتها في فوضى عارمة، بعد أن فشلت في إيجاد بديل يُعيد ترتيب الدولة ونظامها الجديد على أسس تتناسب وطبيعة مجتمعاتها.
لقد دمرت تلك الأنظمة ولعشرات السنين معظم النخب الوطنية والأصوات المخلصة والفعاليات السياسية المعارضة، وصنعت بديلاً هزيلاً كواجهات كارتونية مدفوعة الأجر، لا تمت للوطن والشعب بأي صلة الا بالشعارات والولاء المطلق للنظام، مما أدى إلى اضمحلال مفهوم المواطنة وتقزيمه في حزب أو رئيس أو مجموعة على حساب الوطن والشعب، وما يحصل اليوم في هذه البلدان يأتي نتيجة حتمية لتلك التراكمات التربوية والاجتماعية والسياسية، ناهيك عما تركه التدخل الجراحي الأجنبي من ردود فعل على التورط الغربي والروسي والإيراني الذي أنتج العديد من المنظمات والجماعات المسلحة والميليشيات، التي قزمت الدولة ومزقت المجتمعات وأشاعت مفهوم اللادولة.
8:2 دقيقه
TT
الزينة السياسية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة