ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

الغابة تنمو مجدداً

في كتابه الأخير «الغابة تنمو مجدداً» يحذّر الكاتب روبرت كيغان، من أن القوى التي تهدف إلى زعزعة استقرار النظام الدولي استعادت قوتها من جديد.
على عكس ما يعتقد بعض المراقبين، فإن النظام الدولي الحالي شيء مصطنَع وليس حالة طبيعية. الحالة الطبيعية هي أن تكون هناك قوى متصارعة على الدوام، كل قوة تحاول أن تفرض هيمنتها وفرض نموذجها، ومع تصاعد قوتها الاقتصادية ونزعتها القومية، تتزايد طموحاتها العسكرية للتمدد والتوسع، وعندها تندلع الحروب والصراعات. لنتذكر أن توازن القوى الأوروبية استمر لفترة معينة بسبب تزاحم أوروبا بالقوى المتجاورة الطموحة. ما بين عام 1850 إلى عام 1945 دخلت فرنسا وألمانيا في ثلاث حروب 1870 و1914 و1939. روسيا وألمانيا اشتبكتا بحربين طاحنتين. فرنسا وبريطانيا دخلتا في حرب مع ألمانيا.
ولهذا لم يعرف التاريخ مراحل سلام طويلة إلا في مراحل قصيرة، بسبب وجود قوة مهيمنة لفترة طويلة قادرة على فرض نظام دولي مستقر.
هذا ما صنعته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث هزمت القوى المنافسة من النازية والفاشية وانهيار الاتحاد السوفياتي، ومن حينها يعيش العالم إلى حد ما في عالم مسالم خالٍ من الحروب المدمرة، وبسبب ذلك ازدهر الاقتصاد وتطورت التقنية، واتصل العالم بعضه ببعض بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
ولكن كل هذا مصطنع وليس طبيعياً أو حقيقياً كما نتوهم. بعد سنوات بالعيش في هذا الوضع نعتقد أنه مضمون ولكنه على العكس من ذلك؛ فالغابات، القوى المنافسة الطامحة، كما يشير الكاتب، تعود للنمو من جديد وتسعى لبسط نفوذها.
هذه الطلقات التحذيرية وجّهها الكاتب قبل سنوات إلى الرئيس أوباما في كتاب سابق له ولكنها لم تقتصر عليه، وكذلك إلى الرئيس ترمب، وحالياً إلى الرئيس بايدن. يتهمهم بالتراخي والضعف وعدم المحافظة على استقرار النظام الدولي الليبرالي الذي سينهار مع صعود قوى مثل الصين وروسيا وغيرها من القوى التي تطمح لإيجاد نموذج يناسب مصالحها ويفرض نموذجها حول العالم أو في مساحات واسعة منه.
الخروج من أفغانستان، والنزاع في إثيوبيا، والتراخي في دعم أوكرانيا، واتفاق غير مُقنع مع إيران... كلها انتقادات توجَّه إلى الإدارة الحالية تؤكد طبيعتها الانسحابية من دورها التاريخي، ولكن من جهة أخرى تركز إدارة بايدن على الصين وحدها لأنها تعدها التهديد الاستراتيجي الأكبر لها. وصفقة الغواصات مع بريطانيا وأستراليا أكبر إشارة على هذا، ولكن رغم كل التحليلات والتوقعات لا أحد يعرف عملياً كيف سينتهي شكل هذه الصراعات التي نعيشها.
انهيار القوة الأميركية سيعني بلا شك ولادة عالم جديد لا نعرف ملامحه حتى الآن. ولكن من الخطأ أيضاً المبالغة في وجود أحداث كبيرة قد تغير المعادلة الدولية، فحتى بعد نهاية آخر الحروب العالمية مر العالم بخضّات أكبر من التي نعيشها حالياً لم يمكن بمقدور الولايات المتحدة القيام بشيء حيالها. الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 كانت كارثة على المصالح الأميركية التي لم تفعل معها شيئاً. بعدها الحرب الكورية، تدخلت فيها أميركا وخرجت منها كما دخلت إليها، بالإضافة إلى خسائرها في الأرواح (35 ألف قتيل و100 ألف جريح). وبالتأكيد الحرب في فيتنام والقوة المتصاعدة للاتحاد السوفياتي أيضاً لم يكن بمقدور الولايات المتحدة تحجيمها.
فكرة عودة الغابات أو الأحراش للنمو مجدداً فكرة مثيرة للاهتمام يمكن تطبيقها على منطقة الخليج بكل تأكيد. السلام والازدهار الاقتصادي الذي تعيشه ليس طبيعياً ولكنه مصنوع بفعل القوى التي تحارب التنظيمات الإرهابية والميليشيات الطائفية والتدخل من قوى خارجية في شؤون المنطقة. ليس من الصعب تخيل البديل، فالعراق ولبنان واليمن وشعوبها، تعاني بسبب عدم قدرة الدولة على قص الأحراش المتطاولة بداخلها.