كل من يتابع الشأن العراقي عبر وسائل الإعلام سيتولد بداخله انطباع بأن الاقتصاد يعايش وضعاً كارثياً، بينما يثير «داعش» وميليشيات أخرى الفوضى في أجزاء من البلاد، بل تهدد رئيس الوزراء. وكثيراً ما نسمع أن النظام السياسي في حالة من الفوضى.
على سبيل المثال، قال رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني، في مؤتمر بالجامعة الأميركية في كردستان في مدينة دهوك، إنه كردي أُجبر على العيش في العراق. ورغم مرور ما يقرب من ثمانية عشر عاماً على سقوط صدام حسين، لا يزال الإجماع غائباً عن صفوف العراقيين حول كيفية حل المشكلات السياسية التي تعانيها بلادهم.
ومع ذلك، فقد عدت للتو من 8 أيام قضيتها في العراق، وعاينت واقعاً آخر هناك، ففي شوارع دهوك وأربيل وبغداد الكثير من المتاجر الجديدة التي تحوي سلعاً فاخرة وسيارات. كما أن أسعار المساكن في العديد من المدن آخذة في الارتفاع. وبطبيعة الحال، هناك مضاربات بقطاع العقارات، لكن ذلك لا ينفي أن هناك أموالاً متداولة ويجري استثمارها في العراق. وهناك مطاعم جديدة وممتازة، لا تأتي قائمة الطعام الخاصة بها على الورق، وإنما على هاتف «آيفون» الخاص بك ومرفق معها «كيو آر كود» (لم يسبق لي أن شاهدت هذا الأمر قط حيث أسكن في الولايات المتحدة).
ومقارنة بالسنوات بين عامي 2003 و2010 عندما كانت حركة المرور قليلة للغاية في ساعات الليل، تعج الشوارع اليوم بالسيارات الأنيقة في ليالي عطلة نهاية الأسبوع. وعندما كنت بالخارج في إحدى الليالي، كان الناس الذين يقودون سياراتهم على بُعد أقل من كيلومترين من احتجاج للميليشيات أمام المنطقة الخضراء، أكثر قلقاً من الاختناقات المرورية عن أعمال العنف. وعلى عكس بيروت أو دمشق، يمكن للكثير من العراقيين، إن لم تكن غالبيتهم، الحصول على وقود لمولدات الطاقة التي يملكونها. وعندما تسافر إلى بغداد ليلاً، ستجد أن العاصمة تضيء أكثر كثيراً مما كانت عليه قبل 15 أو حتى 7 سنوات.
وبالتأكيد، ليس كل ما في الشارع مثالياً، فعلى سبيل المثال، بجانب الفنادق الفخمة مثل بابل في بغداد، هناك بائعون يكسبون رزقهم من بيع الأشياء الصغيرة على عربات. وثمة تناقض شديد بين الأغنياء والفقراء داخل العراق، ذلك أنه بجانب المنازل باهظة الثمن شوارع متداعية وأسلاك موصولة عشوائياً بالمولدات، لأن الحكومة لا تزال عاجزة عن توفير أكثر من ثماني ساعات من الكهرباء يومياً داخل العاصمة.
من ناحيته، أشار أحد السياسيين العراقيين المخضرمين الذين عملوا على دستور 2005 إلى أنه في تلك الأيام الأولى بعد سقوط صدام، كانت الطبقة السياسية تهدف إلى ضمان عدم تمكن أي ديكتاتور من الاستيلاء على الدولة مرة أخرى. وقال إن معظم العراقيين خارج كردستان يتمنون الآن لو أن الحكومة المركزية أقوى. وأخبرني مراقب عراقي آخر ذو خبرة أن الأحزاب والقادة العراقيين يقاومون التغيير، وأن النظام لا يستطيع إصلاح نفسه. وتوقع أنه من دون إصلاح لا يمكن للنظام السياسي القضاء على الفساد، وعليه فإن الاستثمار في الصناعة والتصنيع سيكون بطيئاً للغاية.
الحقيقة أن هذه النوعية من المشكلات ليس بمقدور الأجانب والأمم المتحدة والبنك الدولي حلها. (في الواقع، تسببت دول أجنبية في تفاقم بعض المشكلات)، ومع ذلك وفي ظل هذه المشكلات، التقيت في أربيل مديري مشروع يقدم قروضاً صغيرة للغاية - عادة أقل من 50 ألف دولار - لرواد أعمال عراقيين، غالباً ما يكونون من الشباب، يبدأون أعمالهم في منازلهم، ثم يصلون إلى المزيد من العملاء ويتوسعون بما يسمح لهم باستئجار مساحة أكبر وتوظيف المزيد من الأشخاص. وهناك نمو في معدل نجاح هذه الشركات، وسداد قروضها يتجاوز 70 في المائة، رقم معقول لمثل هذه النوعية من المشروعات.
اللافت أن رجل أعمال شاباً بدأ نشاطاً تجارياً عبر الإنترنت في أربيل يمكن العملاء من استخدام موقع إنترنت واحد لشراء جميع أنواع المنتجات والخدمات من مئات الشركات المحلية. ويجري تسليم المشتريات حتى المنزل أو المكتب خلال نصف ساعة. مرة أخرى، لم أرَ قط شيئاً كهذا حيث أعيش في الولايات المتحدة، لكن الشباب العراقيين يصنعونه في أماكن مثل أربيل وبغداد. وهناك شبان عراقيون يبنون شبكات على الإنترنت تساعد السياح الأجانب على زيارة العراق ويرون من تجربتهم الخاصة أنه أكثر أماناً اليوم مما كان عليه من قبل.
وإذا أمعنت النظر في «يوتيوب»، مثلاً، ستجد كل أسبوع مقاطع فيديو جديدة لأميركيين وشباب أوروبيين ينظمون زيارات سياحية إلى بغداد والبصرة وكردستان والموصل. وأكثر ما أثار إعجابي خلال هذه الزيارة، طلاب عراقيون التقيتهم في الجامعات الأميركية في دهوك وبغداد، حيث يتحدث بعض الطلاب الإنجليزية بطلاقة. وبدوا لي أذكياء ومتفائلين بالمستقبل. نعم، هناك مظاهرات طلابية كبيرة في كردستان العراق الآن، لأنه ليس كل الطلاب داخل دائرة هذه النخبة والعديد من الوظائف ذات أجور منخفضة. مجمل القول إن التغيير الجاري في العراق بطيء وغير منتظم. في الوقت ذاته، يواجه العراق تحديات هائلة وعوائق سياسية وأخرى ترتبط بالميليشيات والبنية التحتية والضعف الاقتصادي والتغيرات المناخية. بيد أنه في الوقت ذاته، هناك فئة متزايدة من الشباب العراقي لديهم القدرة على مفاجأتنا.
وأخيراً، فإنه بالتأكيد يجب أن نكون واقعيين في نظرتنا تجاه العراق، لكن من المسموح لنا أن نكون متفائلين أيضاً.
TT
الطيب والشرير والأمل في العراق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة