مينا العريبي
مساعدة رئيس التحرير السابقة، عملت مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن بين عامي 2009- 2011 وهي الان رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشيونال» الإماراتية
TT

بعيداً عن الشعارات... هل توجد رؤية غربية للنظام الدولي؟

«عواقب عدم التحرك». هكذا وصفت وزيرة خارجية الظل البريطانية ليسا ناندي قرار البرلمان البريطاني عام 2013 بعدم السماح لتدخل خارجي تشارك فيه بريطانيا في سوريا. كانت ناندي من معارضي التدخل الخارجي الأجنبي، خاصة أنها هي، مثل غالبية أعضاء حزب العمال، ما زالت تعاني من تبعات المشاركة البريطانية الفعالة في غزو العراق عام 2003، ولكن ناندي أعربت عن ندمها على قرارها رفض التدخل في سوريا، قائلة في خطابها أمام مؤتمر حزب العمال السنوي المنعقد في مدينة برايتون جنوب بريطانيا: «هناك عواقب للتحرك، ولكن أحياناً هناك عواقب لعدم التحرك أيضا. لذلك أنا أعاني من (التفكير حول) كيف يبدو العالم قد أدار ظهره» تجاه سوريا.
وبينما كانت ناندي تتحدث هذا الأسبوع عن السياسة الغربية تجاه سوريا، إلا أن تبعات عدم التحرك الغربي وإدارة الظهر تنطبق على عدد من الملفات الحساسة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخروج الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وحلفائهم منتصرين من الحرب، تشكل نظام عالمي بصورة أعطى الأولوية لطريقة عمل تتبع بشكل عام منهج الدول الغربية ذات الطابع الليبرالي الديمقراطي.
من الأمثلة على ذلك نظام المقاعد الدائمة الثلاثة لتلك الدول في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مقابل روسيا والصين، إلى نظام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المعروف بمنظومة «بريتون وودز». شهدت تلك الحقبة ظواهر سلبية ولا شك، ربما أهمها الهيمنة الاستعمارية وفرض المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الغربية الكبرى التي أخلت بالعالم، لكن في الوقت نفسه كانت هناك عوامل إيجابية من بينها العمل على التنمية والتطور الاقتصادي والعلمي والانفتاح العام الذي أدى إلى عولمة خلقت فرصا للملايين حول العالم.
وسعى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة لأن يواجه ذلك النظام بتحالفات ونهج مضاد مثل عقد حلف وارسو، لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 تفرد القرار الغربي المشهد الدولي. لكن بعد أربعة عقود، يتراجع هذا التفرد لنشهد تقلبات تأتي جزئيا من «عدم التحرك»، والبعض الآخر من التحرك الخاطئ.
من غزو العراق عام 2003 إلى المساهمة في إطاحة نظام الزعيم الليبي معمر القذافي عام 2011، أصبحت التحالفات الغربية العسكرية بقيادة الولايات المتحدة إحدى الركائز على المسرح الدولي. وأدى ذلك إلى إضعاف الأمم المتحدة، التي عادة ما تتدخل بعد الحدث وتحاول أن ترقع ما يمكن ترقيعه من تطورات.
بلا شك، بعد عشرين عاماً من الغزو الأميركي بمشاركة دول الناتو، هناك تراجع ملحوظ عن سياسات خارجية غربية مبنية على التدخل العسكري المباشر. إلا أن التراجع عن التحرك العسكري يأتي في وقت تواصل فيه تلك العواصم الغربية، وخاصة واشنطن ولندن وباريس، جهودها السياسية لفرض نفوذها وتصورها على العالم. انعدام رؤية واضحة من قبل تلك الدول، والتأرجح فيما يخص ملفات أساسية، يزيد من ضبابية مواقف تلك الدول من دون أن يخرجها تماما عن الساحة.
على سبيل المثال، يمكن النظر إلى خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 سبتمبر (أيلول) الماضي. ألقى بايدن هذا الخطاب بعد عشرين عاماً وعشرة أيام من هجمات 11 سبتمبر التي وقعت على بعد أمتار من مقر الأمم المتحدة. بقي شبح تلك الهجمات يسيطر على المشهد الدولي خلال العقدين الماضيين، وأصبحت «الحرب على الإرهاب» المحرك الأول للسياسة الخارجية الغربية، بالإضافة إلى شعارات حول «حقوق الإنسان». قال بايدن، بفم مليان: «سندعم شعب أفغانستان من الآن فصاعدا، ونوضح توقعاتنا من (طالبان) فيما يخص احترامها لحقوق الإنسان العالمية». يبدو أن الرئيس الأميركي لا يرى، أو لا يريد أن يرى، ما يحدث في أفغانستان حالياً من إعدامات علنية ومنع الفتيات من التعليم وغيرها من انتهاكات. ويبدو أن الشعارات الغربية حول «حقوق الإنسان» والالتزام تجاه الشعوب أصبحت أشبه بخطابات الحملات الانتخابية من دون أي التزام بتطبيق الوعود التي تطلق.
خطاب بايدن وغيره من زعماء غربيين أمام الجمعية العامة حمل رسائل حول ضرورة العمل الجماعي لمواجهة تحديات العصر التي تواجه العالم، من وباء «كوفيد - 19» إلى التغيير المناخي وآفات الفساد في العالم. لكن في الواقع، لا يوجد أي تصور حول طريقة تطبيق ذلك العمل الجماعي. فالأمم المتحدة ما زالت منظومة مكبلة بحق النقض «الفيتو» للدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، وأصبح العمل الجماعي مقتصراً بشكل عام على مؤتمرات دولية وخطابات متلفزة قلما يتم تطبيقها.
«عدم التحرك» الغربي ليس بالضرورة سيئاً بحد ذاته، ولكن الضبابية في المواقف والانقسامات بين حلفاء تقليديين خلال العقود الماضية يثير تساؤلات عن مستقبل تلك الدول وعلاقاتها مع العالم، خاصة مع خروج أبرز وجه يمثل الاستقرار الغربي والرؤية الواضحة: أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية التي تنتهي ولايتها بعد 16 عاماً.
وبينما تمر برلين بتحولاتها الداخلية، هناك تحول تاريخي في علاقات الدول الغربية الليبرالية وأسس التعاون بينها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. التحالفات بناء على «الناتو» أو «مجموعة السبع» لم تعد ثابتة.
الخلاف العلني بين فرنسا من جهة وأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إثر أزمة الغواصات قبل أسبوعين دليل على تمزق هذا التحالف وعدم قدرة زعماء تلك الدول على احتواء الخلافات والعمل معاً. العالم بأجمعه، وخاصة بكين وموسكو، راقب هذه الخلافات وعرف أن هناك زعزعة لتحالفات تعودنا عليها في الزمن المعاصر، ولكن من ينظر إلى التاريخ البعيد يعلم أن تلك الدول غالباً ما كانت تتنافس، وأن التنسيق بينها كان أقرب إلى الاستثناء من المعتاد على مدى القرون الماضية. وقد نشهد تقلبات تجعل سياسة «عدم التحرك» الغربي الجماعي واقعا وعلى باقي العالم أن يعتاد عليه.