د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

قريباً... الطائرات الصينية

حتى عام 1970، كانت شركة «بوينغ» الأميركية محتكرة سوق صناعة الطائرات في العالم، وفي ذلك العام قرر عدد من الدول الأوروبية إنشاء شركة «إيرباص» لتكون منافسة في هذه الصناعة الاستراتيجية ولتكسر احتكار «بوينغ» التي أنشئت عام 1916. ولأهمية هذه الصناعة، شهدت كلتا الشركتين دعماً حكومياً سبب حزازات بينهما خلال الـ17 عاماً الماضية، حتى وصلا إلى اتفاق في الشهر الماضي أنهى هذه الحزازات بشكل مؤقت. وكان السبب في هذا الاتفاق دخول عدو مشترك لهما؛ هو شركة «كوماك» الصينية، التي أعلنت أنها ستبدأ بشكل رسمي تصنيع الطائرات المدنية بنهاية العام الحالي.
وانبثقت شركة «كوماك» من «مؤسسة صناعة الطائرات الحربية» في الصين عام 2008، ومنذ ذلك الوقت والحكومة الصينية تستثمر في هذه الشركة، ويقدر ما أنفقته الحكومة الصينية عليها بما بين 49 و72 مليار دولار. وبينما شهدت مشاريع هذه الشركة تعثرات كثيرة، فإنها استمرت في دعم هذه الشركة. وفي لقاء مع الرئيس الصيني عام 2014، أوضح أن الصين تنفق المليارات على شراء الطائرات، وأنه حان الوقت لاستثمار هذه الأموال في مشاريع تطوير تصنيع الطائرات.
والواقع أن الصين تشكل نسبة لا يستهان بها من الطلب على الطائرات، لدرجة أن ربع إنتاج «بوينغ» قبل الوباء كان يذهب للسوق الصينية. والطلب الصيني في ازدياد مستمر، وتوقعت «بوينغ» أن تشتري الصين خلال السنوات العشرين المقبلة نحو 8600 طائرة، بتكلفة نحو 1.73 تريليون دولار! والحكومة الصينية لا تريد لهذا المبلغ الضخم أن يتسرب إلى خارج الصين، ولذلك؛ فإن ما تستهدفه الحكومة الصينية، على الأقل على المدى القريب، هو توفير هذا التسرب. ويتوقع أن تستغل الصين سوقها المحلية في تسويق طائرات «كوماك» حتى تتمكن من المنافسة العالمية بعد فترة، وتوقع خبراء «بوينغ» أن تدخل «كوماك» وبطرازها الحالي «C919» المنافسة الدولية بعد نحو 10 سنوات، وحتى ذلك الوقت فستكتفي بتغطية السوق المحلية. وأعلنت «كوماك» أن لديها طلبات بنحو ألف طائرة تتوقع تسليمها نهاية العام الحالي. ويشكك الغرب في قدرة الشركة على تسليم هذه الطائرات، بالإضافة إلى تصريح العديد من وسائل الإعلام الغربية بأن هذه الطلبات جاءت بضغط من الحكومة الصينية على شركات الطيران لدعم الشركة المحليّة.
إلا إن «كوماك» لا تزال تعتمد في تصنيعها للطائرات على التقنيات الغربية، وتشكّل القطع المستوردة من الشركات الغربية معظم مكوّنات طائراتها وأكثرها أهمية، بينما تستخدم القطع المصنعة في الصين بشكل محدود في الطراز الحالي من طائرات «كوماك». وسلاسل التوريد في صناعة الطائرات المدنية تعدّ من الأكثر تعقيداً على مستوى الصناعات، فقد يزيد عدد القطع في الطائرات على 500 ألف قطعة، تصنّع من قبل عشرات إذا لم يكن مئات الموردين، والتكامل بين هذه المكوّنات من الناحية التشغيلية والإدارية شديد التعقيد.
وإضافة إلى عامل التقنية المتقدمة الذي تفتقد إليه «كوماك»، فإنها تفتقد الخبرة التراكمية الموجودة لدى «إيرباص» و«بوينغ»؛ فالأولى بدأت أبحاثها في الطيران منذ أكثر من مائة عام، أما الأخيرة فلديها نحو 50 عاماً من الخبرة في زمن ازدهار صناعة الطائرات. والشركتان تطورتا بفعل التنافس المستمر بينهما، وتكونت لديهما معرفة عن توجهات العملاء وعن أسرار النجاح في تلبية رغباتهم. وبين المائة والخمسين عاماً المشتركة بين هذين العملاقين، تأتي «كوماك» بأقل من 20 عاماً من الخبرة، وبمشاريع عرفت بتعثرها وعدم وفائها بأوقات انتهائها.
إن دخول الصين إلى صناعة الطائرات المدنية يشكل تهديداً حقيقياً لسطوة الغرب على هذه الصناعة، ومن يشكك في أن الغرب يرى نفسه قوة واحدة ضد غيره، فإنه يمكنه التأمل كيف طرحت القوتان «بوينغ» و«إيرباص» خلافاتهما جانباً لمجرد ظهور تهديد مشترك لهما يتمثل في «كوماك» الصينية. ولا يمكن استبعاد أن يضغط الغرب على الصين؛ وذلك لتعطيل هذا المشروع، وقد يكون هذا الضغط على الشركات الموردة؛ تماماً كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع شركات المعالجات الحاسوبية الأميركية ضد شركة «هواوي» الصينية. ويبدو أن الصين ماضية في كل الأحوال في هذا المشروع، فهي الآن أكبر من أن تستسلم لهذه الضغوطات؛ لا سيما أنها قطعت شوطاً كبيراً في هذه الصناعة، ولدى «كوماك» دعم غير محدود يكفيها للمنافسة المحلية حتى تتمكن من المنافسة العالمية.