عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المثقف «الضحية»

تناولنا، الأسبوع الماضي، ظاهرة اندفاع المثقفين المهاجرين في بريطانيا إلى الالتحاق باليسار بكل أنواعه، خصوصاً المصريين، والعرب، والشمال أفريقيين، أكثر من الأفارقة والآسيويين.
المشترك بين المثقفين من مواليد بريطانيا، والمهاجرين إليها، من بلدان الجامعة العربية هو تشابه رؤية كليهما للعالم بعدسة اليسار، لكن الفارق ملاحظتان: غياب المثقفين العرب عن يمين الوسط البريطاني، ثانياً قوة العاطفة في دعمهم لمؤسسات اليسار السياسية، والثقافية، والاجتماعية. ومثلاً لا ينتمي رجال الأعمال والمستثمرون والعاملون في المهن الحرة إلى منظمات يسارية تضر بمصالحهم الاقتصادية. الشرائح الأخيرة، تصنف اجتماعياً كطبقة وسطى بريطانية، لكن أعضاءها أكثر مرونة وبراغماتية من المثقفين، بحكم الاحتكاك اليومي بالمواطنين، وفي تعاملهم مع واقع المجتمع البريطاني، حتى وإن لم يستوعبوا ثقافته كاملاً أو يندمجوا فيه.
وبعكس المستثمرين في مشاريع خاصة والمهنيين، يتركز نشاط المثقفين المصريين والعرب في مؤسسات صحافية، أو أكاديمية، أو ثقافية، مما يحصر اختلاطهم في دائرة محدودة، وتعاملهم اليومي في قطاع الخدمات مع سائق التاكسي، أو الغرسون، أو البواب، وأغلبية هؤلاء من المهاجرين لا من مواليد الجزر البريطانية.
والمثقفون، حتى إذا حاولوا الاندماج أو تفهم الجوانب السياسية في بريطانيا، فإن أكثرهم يعمل في مؤسسات عربية، وتفاعلهم على الوسائل التقليدية أو على التواصل الاجتماعي لا يزال سباحة في مياه عربية شرقية. وهذا يبقيهم في ثقافة فترة نشاطهم في بلدان المولد؛ أي بجانب «الغيتو» الثقافي - الجغرافي، فهم يعيشون في «غيتو» الحقبة الزمنية لدراستهم الجامعية، فيستمرون، بالقصور الذاتي (رغم نفاد وقود المحرك منذ أربعة عقود)، في الاتجاه نحو اليسار البريطاني، لأنه يرفع «شعارات المرحلة» كمعاداة الاستعمار، وتصفية الإرث الإمبريالي، وإدانة إسرائيل، ونصرة «حماس» وغزة (لدوافع مختلفة)، بلا دراسة عميقة لمراحل تطور اليسار في الغرب، وأغراضه المشابهة لاستراتيجية جماعات كـ«الإخوان»، في إثارة الحقد العرقي أو الديني (كبديل للحقد الطبقي) لهدم المؤسسات الاجتماعية المألوفة.
مثقفو اليسار البريطانيون يصدقون كذبتهم بأنهم وحدهم غير العنصريين في البلاد؛ والدليل الذي يسوقونه؟
تبنيهم لحريات شخصية كالمثلية، والتحول الجنسي (عضوي أو نفسي)، وحركات كالنسوية، وكـ«أرواح السود تهم»، وهي حركات تفوقية آيديولوجية، غرضها السيطرة السياسية والاجتماعية لا المساواة كما تدعي.
وما يكشف ادعاء اليساريين البريطانيين هو توقعهم «حتمية» انتماء المهاجر المثقف لليسار، سواء كان كاتباً صحافياً، أو مخرجاً سينمائياً، أو أكاديمياً، لأنه «ضحية» للعنصرية الإمبريالية، واستغلال الاستعمار الأوروبي لأفريقيا والبلدان التي تكون الجامعة العربية اليوم.
وتجربتي تحليلاً لتفاصيل أحداث صدامات ثقافية واجتماعية خبرتها شخصياً، تتفق وتقدير عدد من مثقفي يمين الوسط الإنجليز، وهم اليوم فئة مهددة بالانقراض، بأن موقف اليسار البريطاني باشتراط انتماء المثقفين العرب والأفارقة إلى اليسار لاجتياز امتحان «الاعتراف» بهم لأنهم «ضحية»، يمثل نظرة عنصرية (سواء في الوعي أو اللاوعي) تعني ضمنياً عدم قبولهم المهاجر كمواطن بريطاني له حقوق مساوية يكفلها القانون.
وقبول المثقف المهاجر تعليق هذه اللافتة حول رقبته، وأداء دور من «السيناريو» الذي كتبه اليسار البريطاني، هو قبول الصورة النمطية وتعريف اليسار للمهاجر من المستعمرات والمحميات الأوروبية السابقة. ولا يمكن أن يتساوى «الضحية» مع «المنقذ» مهما كان نبل الأخير. لم يمر اليسار العربي أو الأفريقي بمراحل تطور اليسار الغربي وصولاً إلى النظرية (الأميركية المنشأ) النقدية العنصرية (critical race theory). ومن جزئيات هذه النظرية الراديكالية اعتبار أي «contact - zone» (منطقة تلاحم ثقافتين) بمثابة توسع كولونيالي عنصري المضمون سلب السكان الأصليين ثقافتهم. واليسار في الغرب يحتكر تعريف «الثقافة» التي سلبها الاستعمار من المثقف (المهاجر)، وأيضاً تعريف الهوية التي غالباً ما يفرضونها على المهاجر رغم أنفه. المفارقة أن اليسار العربي، رغم طفوليته اجتماعياً وأميته في الأمور الاقتصادية، لا يزال في عدد من المجالات الإبداعية أكثر تقدمية من اليسار الأوروبي، بحكم طبيعة القهرين الاجتماعي والسياسي، والرقابة التي يواجهها. النقدية العنصرية تصنف من لا ينتمي للأعراق غير الأوروبية البيضاء «كضحية» بحاجة طبعاً لقيادة «المنقذ» اليساري في مسيرة التحرر من العبودية التاريخية. اليسار البريطاني بدوره اختار السير وراء راية التطرف الماركسي التي تلوح بها حركات كـ«أرواح السود تهم»، كرد فعل عكسي لعقدة التفوق، وإخفاق المثقف اليساري المصري أو العربي في دراسة هذه التطورات سيجعله تابعاً ليسار بريطاني بدوره تابع لحركات أميركية هدفها محو تاريخ طويل من الإنجازات في كل المجالات والتطورات التي ساهمت بها أوروبا للبشرية منذ عصر النهضة.
ونكرر، المثقف المهاجر من الجيل الأول لم يطور ما تلقاه من معلومات شكلت رؤيته الثقافية للعالم في المرحلة الجامعية في بلد المولد، حيث كان (ولا يزال) اليساريون هم المساهمين الأكثر إنتاجاً في الثقافة والفنون والآداب، وعلى النقيض اليسار اليوم، في الجامعات البريطانية والأميركية ومجالات الفنون، يتبنى النقدية العنصرية، فيحارب الإبداع والإنتاج الثقافي ويلغي الكلاسيكيات والأدبيات التي هذبت وشكلت العقل الأوروبي بأدب وفلسفة عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وإذا نظرنا إلى الحالة المصرية على سبل المثال لا الحصر، وبالتحديد الحملة الفرنسية (1798 - 1891)، فإن المصريين ليسوا «ضحية»، في منطقة التلاحم حسب النظرية الأميركية الجديدة، بل إن علماء الحملة الفرنسية الذين جاءوا مع نابليون بونابرت (1769 - 1821) كانوا من أعاد اكتشاف الحضارة المصرية وقدمها للعالم، وبدأ عصر التنوير على جنوب وشرق البحر المتوسط، وترتب على ذلك بناء الدولة المصرية الحديثة المستقلة عن الخلافة العثمانية بإعادة اكتشاف الهوية المصرية الأقدم، بآلاف السنين، من الهوية العثمانية. والهوية المصرية التي أزاح الفرنسيون الرمال عن أسسها الحضارية كانت طمست لقرون طويلة تحت حكم مستعمر (لم يكن أوروبياً). واليسار البريطاني يتعاطف مع، ويدعم، حركات متطرفة كـ«الإخوان» والمنظمات التي تدعمها إيران لأنها تشارك اليسار الغربي استراتيجية محو الهوية الوطنية وهدم مؤسسات الدولة القومية (كالحالة المصرية مثلاً). فهذا اليسار يلغي الهوية الوطنية، وينظر (بعنصرية) إلى ثلاثين جنسية وعرقية مختلفة على أنهم سلالة واحدة وجنسية مشتركة بنظرة القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر التي قاومت ظهور دول حديثة مستقلة بطبقة وسطى مستنيرة، مفضلة إبقاءها ولايات عثمانية تحت حكم متخلف حضارياً، لكن يسهل التعامل مع بابه العالي.
ولا يعي معظم المثقفين المصريين والعرب في بريطانيا هذه الجزئية، ولكنه اجتهادنا الشخصي لمحاولة تفسير ولعهم بحركات يسارية لا تحترم استقلالية هويتهم وحضارة بلدان مولدهم.