مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

لا يذهب العرف بين الله والناس

سوف أتطرق لموضوع مؤكد وموثق، وله دلالات إنسانية عظيمة، ولكن اسمحوا لي أن أبدأ ببيت الحطيئة توطئة لما سوف أستعرضه:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
كان هناك فلاح أسكوتلندي فقير اسمه (فليمنغ)، في يوم من الأيام وبينما هو يكدح في حقله سمع صرخة استغاثة آتية من مستنقع قريب، فأسرع إلى هناك فوجد صبياً مذعوراً من انزلاقه في المستنقع، وقد غمره الطين الأسود إلى خصره، وكان يصرخ ويحاول جاهداً أن يخرج نفسه من مستنقع الطين من دون جدوى، وأسرع الفلاح وخلص الصبي مما كان يمكن أن يودي بحياته.
وفي اليوم التالي توقفت فجأة عربة فاخرة أمام المكان الذي يعمل به الفلاح الأسكوتلندي ونزل من العربة رجل من طبقة النبلاء، أنيق الملبس، وقدّم نفسه للفلاح على أنه والد الصبي الذي أنقذه بالأمس، وعرض عليه مكافأة مالية نظير إنقاذه لابنه، ولكن الفلاح رفض وبشدّة أي مكافأة مالية، وفي اللحظة ذاتها خرج ابن الفلاح من باب المنزل المتواضع، فسأله النبيل: هل هذا هو ابنك؟، فرد الفلاح: نعم، فأجابه النبيل: إذن فلنعقد صفقة بيننا؛ اسمح لي أن آخذ ابنك هذا وأوفر له تعليماً جيداً، فإن كان هذا الصبي يشابه أباه في أخلاقه، فلا شك أنه سيكبر ليصير رجلاً تفخر أنت به. وهذا ما حدث، فقد قام النبيل بإرساله إلى مدرسة مستشفى (سانت ميري) الطبية في لندن للدراسة.
وفي عام 1929 كان ذلك الصبي هو الذي أصبح فيما بعد سير ألكسندر فليمنغ (1881 - 1955) مكتشف البنسلين، وقد عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل في القضاء على معظم الأمراض الميكروبية، كما حصل على جائزة نوبل في عام 1945.
لم تنتهِ القصة بعد، فحين مرض ابن اللورد الثري بالتهاب رئوي، كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته، فذاك الصبي ابن الرجل الثري الذي أنقذ فليمنغ الأب حياته مرة، وأنقذ الابن حياته مرة ثانية بفضل البنسلين، هو الذي أصبح رجلاً شهيراً للغاية ويدعى (اللورد ونستون تشرشل)، الذي كان أعظم رئيس وزراء بريطاني على مر العصور، وهو الذي قاد الحرب ضد هتلر النازي أيام الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).
ومثلما بدأت هذه الحادثة ذات الدلالة الإنسانية ببيت من الشعر، اسمحوا لي أيضاً أن أختمها ببيت شعر آخر له نفس الدلالة:
ازرع جميلاً ولو في غير موضعه/ فلا يضيع جميل أينما زرعا