سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

خواطر في الصحراء: سواح

بدأ الأميركيون منتصف القرن الماضي استخدام عبارة «الصدمة الثقافية» لوصف الفروقات الهائلة بين التحضر ونقيضه، الحداثة وما قبلها، العصر الذي نحن فيه والزمن الذي لا نزال عليه. وكم كان أحرى باللبنانيين الذين لم يغادروا وطنهم منذ أن لازموه مع إعلان الوباء رسمياً، أن يحرصوا ألا تكون رحلتهم الأولى إلى دبي، وإنما إلى أي مكان قبلها، وإلا، فالصدمة الثقافية قد تطيح جهازهم العصبي. كانت هذه أول سفرة لي خارج البلد الذي ولدت فيه، بعد حجر الـ«كورونا» المرير، وأول رحلة إلى دبي منذ سنين لم أعد أذكرها. والرقم قياسي في الحالتين، من دون حاجة إلى إفادة السادة «غينيس» وشركائهم.
منذ زمن طويل لم أعد أمارس لعبة المقارنة بين لبنان ودبي، وبالتحديد منذ أن قال لي الراحل رفيق الحريري إنه سوف يقلّد الإمارة في مشروعه لإحياء لبنان.
لم أبلغ أحداً من أصدقائي أنني قادم إلى دبي لكي لا أزيد فوق أشغالهم. وفي أي حال كنت أعرف أن الساعة هي التي تدير الأمور هنا، ولذا لم أصغ إلى صاحبة الحكمة في البيت وهي تصر على أن أطلب كرسياً متحركاً، بعدما صار لي ورك اصطناعي.
من دون أن أختار ذلك، صدف أن رحلة «الإمارات» كانت على متن بوينغ 777-300 وهي أحب الطائرات إليَّ في ستة عقود من ديار الله. غفوت الطريق وكأنني في فيلم من «ديزني»، وأفقت على صوت الطيار يعلن المباشرة بالهبوط. لم أرفع ستارة النافذة، لأنها أصبحت ترتفع آلياً. وعندما كنت أجيء إلى هذه الديار في السنين الأولى، كانت المسافات القصيرة تقطع في طائرات «هيرت» الإنجليزية الصغيرة، حمولتها 12 راكباً، من بينهم الكابتن، في السروال القصير، وتصعد إليها على سلم من نحو ست درجات. أما المسافات الأطول فكانت على طائرات ضخمة من محركين. وفي إحدى الرحلات التي لا تُنسى، كان إلى جانبي مسافر مصري مقيم في المنطقة. وقد تطوع أن يشرح لي خريطة الرحلة من دون أن ينتبه إلى أنني متوتر وأحاول جهدي مساعدة الطيار. ثم راح يشرح الهبوط. وعندما رأى أننا تجاوزنا المطار، ثم أخذنا ندور حوله، أصيب بالهلع، وتضامنت معه تماماً، وماذا تريد أن يردد لحظة تمنع العجلات عن التجاوب: «دي فسحة مش لطيفة خالص». وظل يردد ذلك إلى أن لطف الله وأفلح الطيار الجدع.
من نافذة البوينغ 777 رحت أبحث عن دبي بين الرمال. ووجدت نفسي أبحث عن الرمال في دبي. مزارع خضراء خلف الأخرى، وبساتين لا أعرف نوعية أشجارها، ومساكب هندسية، وفسحة لطيفة (خالص)، لكن المشكلة بدأت بعد النزول ودخول المطار. كنت أعرف في الماضي أن دبي تضيف جسوراً أو أبراجاً أو مدناً جديدة كل عام، لكن ليس مطارات. وكان علينا أن نذهب أولاً و«بالسيارة الكهربائية» إلى أكبر مركز كشف طبي في العالم كالعادة. لكن بعدها ضاعت السيارة ورحت أردد أغنية «سواح» للعندليب «مشوار بعيد وأنا فيه غريب - والليل يقرّب والنهار رواح». واقترب الليل ولم تقترب نهاية المطار الجديد. ولما حصل ذلك، أخيراً، ورأيت باب الخروج توقفت وهتفت الحمد لله. غلط. عليك أن تقطع جزءاً آخر من المطار الإضافي. كان اللبنانيون عندما يسافرون إلى الخليج في الماضي، يقولون: «رايح عَ الصحرى». الآن أصبحت «الصحرى» وراءك.
إلى اللقاء...