سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

القطار يطير

اغتيل المهاتما غاندي العام 1948. ولا أدري في أي سنة قبل وفاته كتب هذه المقارنة عن التقدم البشري، لكنني قرأتها وأنا أقول في نفسي ماذا لو أنه كتبها في هذه الأيام، إنه يعلن انبهاره بسرعة القطار في تلك الأيام: 480 ميلاً. أجل 480 ميلاً. في الساعة؟ لا. في اليوم؟ لا. في الأسبوع؟ أجل، في الأسبوع. ويقول متعجباً إنه لا يطير في الأثير. وقد بحثت عن أسرع قطار اليوم فوجدته في فرنسا، وسرعته 370 ميلاً في الساعة. ويتحدث غاندي عن «ظهور أوبئة لم يعرفها البشر من قبل». ويتحدث العلماء اليوم عن انتشار الكورونا بسرعة الطائرة المدنية، أي نحو ألف كلم في الساعة. وقال غاندي يومها إن الإنسان انتقل من عربة الثيران والخيول إلى السيارة التي تقطع 60 ميلاً في الساعة، وتبلغ سرعة بوغاتي اليوم 304 أميال في الساعة.
لم يأتِ غاندي على ذكر الهاتف. لكن عندما عرفته في منزلنا الأبوي أوائل الستينات كان وزنه نحو 3 كلم. والهاتف الذي معي اليوم لا أعرف من استخداماته سوى 2% على الأكثر ومنها التصوير بالألوان وقراءة الصحف وتوزيعها على الأصدقاء ومشاهدة الأفلام وقراءة الكتب المسموعة وطلب الصحن اليومي من المطعم، أو الصحنين، عندما يكون فاصوليا بيضاء مع الأرز. ولم يجمعني شيء على هذا الكوكب مع صدام حسين سوى الافتنان بالفاصوليا البيضاء، مطبوخة أو متبلة أو خوش زلاطة أغاتي.
ويلتفت غاندي أيضاً إلى الشر الذي يحمله التقدم. ويقارن بين الرمح والمسدس، ثم بين المسدس والرشاش. ويبدو أنه أنشأ تلك المقارنة قبل أن يفجّر الأميركيون السلاح الذري الذي اخترعه أعداؤهم الألمان في وجه أعدائهم اليابانيين. وهناك الآن من الذرة ما يكفي لتدمير العالم عشر مرات، مع أن الأولى وحدها تكفي. وخلال أزمة الصواريخ الكوبية هددت موسكو باستخدام الذرة وأرعبت أميركا. لكن الوثائق السوفياتية تكشف الآن أنها لم تكن جديّة على الإطلاق. وكانت تعرف أكثر من غيرها، أي نوع من الرماد البارد سوف تصير هذه الكرة، إذا ضغط على زر جهنم، مجنون في موسكو، أو معتوه في واشنطن.
كان يمزح، الرفيق نيكيتا خروشوف، مثلما مزح يوم خبط بحذائه الصغير على الطاولة في الأمم المتحدة، عندما أغضبه وزير خارجية الفيلبين. وقيل يومها إن تلك الخبطة أحرجت الرفاق المحافظين في الكرملين وجعلتهم يعزلون الرفيق التاريخي إلى الأبد، بعكس ما هي العادة في الكرملين، أي البقاء إلى الأبد، بمجرد أن يضع الزعيم قدمه، أو حذاءه، داخل المكتب.
عندما ترجمت مذكرات خروشوف لـ«النهار» و«الأهرام» فيما بعد بالاتفاق مع مجلة «تايم» قال السوفيات إن مترجمها وناشرها وناقلها وقارئها، عملاء انحرافيون ذيليّون رجعيون إمبرياليون. مع أنها كانت مذكرات الرجل الذي حكم الكرملين لأكثر من 15 عاماً.