أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

السوريون وإحياء الاتفاق النووي مع إيران

هي مفارقة لافتة، أن غالبية السوريين على اختلاف اصطفافاتهم، يتفقون، وإن كان من مقدمات وأهداف متباينة، على أن النجاح في إحياء الاتفاق النووي مع إيران سيكون له تأثير كبير على واقع بلادهم ومستقبلها، ما داموا يتفقون على أن إيران باتت طرفاً فاعلاً ومؤثراً بحيواتهم ومصيرهم، وأنها لن تكون بعد إحياء الاتفاق النووي كما قبله، بل ستمتلك فرصة كبيرة لالتقاط الأنفاس وللإفادة من رفع العقوبات، وتحرير صادراتها وأموالها المجمدة، لترميم اقتصادها المتهالك وتوفير الإمكانات اللازمة كي تمضي قدماً في تحقيق مطامعها الإقليمية، وخاصة تعزيز دورها التدخلي في سوريا.
لا يخفى على أحد فرح السلطة وتهليل بعض أعوانها، بما يحصل من تقدم في مفاوضات فيينا، معولين أن يشكل ذلك مناخاً جديداً يخفف حدة الضغوط الغربية عليهم وخاصة تداعيات قانون قيصر! هذا فضلاً على رهانهم بأن يفتح إحياء الاتفاق النووي الباب على متغيرات تعيد ترتيب الأوراق وتخلق تحولات في التفاعلات السياسية الجارية في الدوائر الغربية والعربية حول الموقف من النظام السوري، بما يضعف دور المتشددين ويشجع دعاة الانفتاح والتعاطي الاحتوائي معه.
وما يزيد «هيصة» الفرح والتهليل أن يعتبر ساسة النظام السوري ومؤيدوه أن إحياء الاتفاق النووي سوف يمكّن إيران وميليشياتها من قطع الطريق على أي محاولة لتغيير توازنات القوى التي فرضت في البلاد لمصلحة أركان السلطة القائمة، كأولوية أرسيت دعائمها منذ أكثر من 30 عاماً، وتجلت مؤخراً بالدعم المطلق للانتخابات الرئاسية، كما برزت خلال السنوات الأخيرة بمساندة غير محدودة للطغمة الحاكمة وتشجيعها على الاستمرار في العنف وعلى رفض تقديم أي تنازلات لتفعيل مستلزمات الحل السياسي، ربطاً بإطلاق دور «الحرس الثوري» وميليشياته و«حزب الله» للفتك بالسوريين وإجهاض ثورتهم.
أما المعارضة السورية التي تدرك حجم التكافل والتنسيق بين حكام دمشق وملالي طهران، ودور الأخيرين في تمكين النظام ومنع سقوطه، فهي تخشى أن يفضي التوافق حول الملف النووي، لمزيد من تراجع اهتمام الغرب بمعاناتها، ولتمادي إيران في تدخلها بالشأن السوري، ما يقوّي المعسكر الرافض للمعالجة السياسية، ويطلق رصاصة الرحمة على مفاوضات السلام، ومحاولات تفعيل قرارات الشرعية الدولية، وأبرزها القرار 2254.
ومن بين المعارضين من يدعو إلى عدم إعطاء قيمة لإحياء الاتفاق النووي، لأنه لن يغيّر برأيه من جوهر الأمور، معتقداً أن حكام إيران بغضّ النظر عن قدرتهم الاقتصادية والصعوبات التي تعترضهم، لن يفرطوا، كعادتهم، في الحلقة السورية بصفتها إحدى الحلقات الرئيسية من نفوذهم الإقليمي، كما لن يتراجعوا عن استراتيجية تصدير ثورتهم الإسلاموية ومد أذرعهم التدخلية عبر العزف على وتر العصبية المذهبية وولاية الفقيه، حتى لو ألحق ذلك أفدح الأضرار بشروط حياة غالبية الإيرانيين المسحوقين وبحاجاتهم، ويزيد الطين بلة ميل الإدارة الأميركية الجديدة لتهميش الملف السوري، وإعطاء أهمية قصوى لتجديد التوافق النووي حتى لو تم ذلك على حساب الصمت عن أنشطة إيران التدخلية، مستحضرين الفرص الكبيرة التي قدّمتها واشنطن لطهران ومكّنتها موضوعياً من تمرير مشروعاتها التوسعية، وأوضحها موقفها السلبي من تدخل «الحرس الثوري» والميليشيا الموالية له في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وغض النظر عما أنتجه ذلك من ظواهر الإرهاب والقتل والاغتيالات وتسعير النزاعات المذهبية والطائفية.
وفي المقابل، ثمة مخاوف لدى كثير من السوريين على اختلاف مناطق وجودهم، من أن يفضي الانفتاح الغربي على إيران إلى تعميق دورها في سوريا اقتصادياً واجتماعياً، ما ينعكس سلباً عليهم، وعلى شروط حياتهم وممتلكاتهم وقدرتهم على إدارة شؤونهم، وهم الذين خبروا بأن أي انتعاش لإيران يعني مزيداً من تحكمها بالموارد والثروات السورية وحرمان أصحابها منها، والأسوأ مزيد من التوغل والاستباحة للبلاد، متوسلة تفعيل دور «حزب الله» وغيره من الميليشيات الأجنبية لهتك بنية المجتمع السوري وتفكيكها، ربطاً بتنشيط خطط التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، وباستغلال حالة الفقر والعوز لنشر المذهب الشيعي، والأسوأ عمليات التجنيس التي تجري على قدم وساق للإيرانيين؛ حيث بات هؤلاء المجنسون ينتشرون انتشار الفطر، في مناطق الحدود الشرقية وفي الأماكن المحيطة بما يعرف بالمراقد الدينية.
يتساءل السوريون البسطاء وهم يراقبون اللهفة الأميركية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، ألم تدرك الولايات المتحدة بعد، ماهية حكام طهران أم أنها لا تريد أن تدرك؟ وهل هي لا تعي حقاً بأن مثل هذه الطغمة الآيديولوجية لن تتراجع أبداً عن مراميها مهما كانت الاشتراطات الغربية في الملف النووي، بدليل ما راكمته من خبرات ووسائط خلال سنوات كثيرة من إبرام الاتفاق النووي القديم، مكّنتها بسرعة لافتة من رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى حدود مقلقة؟ وكيف لا يزال يخفى عنها أن هدف ملالي طهران هو رفع العقوبات أساساً وربح الوقت للمضي سراً في مخططهم بحيث يضعون العالم أمام واقع جديد عنوانه امتلاكهم السلاح النووي؟
بينما يتساءل آخرون، هل يصدّق فعلاً بعض صناع القرار في واشنطن ما يروّجونه عن أن إكراه إيران على توقيع اتفاق نووي جديد سوف يجبرها، كي لا تخسر المكاسب التي حصلت عليها، على لعب دور إيجابي لمعالجة بؤر التوتر في المنطقة، بما في ذلك مساعدتهم في الضغط على النظام السوري لحضّه على المشاركة في العملية السياسية؟ أليس معروفاً لديهم الجنوح المزمن لقادة إيران ضد السلام والاستقرار في المنطقة، وأنهم اعتاشوا منذ قيامهم بثورتهم الإسلاموية في ثمانينات القرن العشرين وحتى يومنا هذا على تغذية الحروب وبؤر التوتر والصراع لبسط نفوذهم؟
أخيراً، هي مفارقة لافتة أيضاً، أمام حالة التغافل الأميركي، أن يستشعر هؤلاء السوريون البسطاء مبكراً مرامي حكام طهران لبعث مشروعهم الإمبراطوري، ولإجبار العالم على الاعتراف بمكانة تتجاوز حقوقهم ووزنهم، متوسلين، مرة أولى، دأبهم على امتلاك السلاح النووي وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً، ومرة ثانية، نهجاً تدخلياً سافراً لمدّ نفوذهم إقليمياً عبر خلق أذرع وميليشيات إرهابية كما الحال في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لتخريب مجتمعاتها والسيطرة عليها، ولعلهم على بساطتهم استشعروا مبكراً أيضاً، حقيقة أن لجم الاندفاعة الإيرانية لامتلاك السلاح النووي هو صنو تقليم أصابع نفوذها في المنطقة، وأنه لا يمكن فصل هذا عن ذاك.