نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

رذاذ أميركي ينعش المقاطعة

تنفست المقاطعة في رام الله الصعداء، بهبوط رذاذ أميركي جاء بعد انحباس طويل الأمد كاد يستدعي صلاة استسقاء تطلب من الباري عز وجل ولو قليلاً من المطر.
الحريق الذي انطلقت شرارته من القدس وامتدت ألسنته إلى غزة، لتنتج حرب صواريخ وطائرات ودماراً، هذا الحريق لم يثمر مجرد اتصال هاتفي أجراه بايدن مع الرئيس عباس، ولا وصول المبعوث الأميركي الأول هادي عمرو ثم الوزير بلينكن، بل إنعاش الآمال بتنفيذ الوعود الأميركية فيما يخص إعادة العلاقة القديمة مع السلطة، وبما يتطلبه ذلك من إعادة فتح الممثلية الفلسطينية في واشنطن والقنصلية الأميركية في القدس الشرقية مع تقديم منح مالية لغزة وللسلطة في رام الله.
ولا شك أن ضراوة الحرب الأخيرة بكل حلقاتها ومؤثراتها محلياً وإقليمياً وحتى أميركياً، أملت إسراعاً لاحتوائها بما في ذلك تخلٍّ أميركي عن المصطلح الذي ساد منذ بداية عهد بايدن بأن الملف الفلسطيني - الإسرائيلي ليس في موقع متقدم على الأجندة.
التطور الأخير في العلاقة الأميركية - الفلسطينية يطرح عدة أسئلة، أولها: هل الاستفاقة الأميركية نحو السلطة الرسمية الفلسطينية هي لمجرد ترجيح شرعيتها المعترف بها على ما يهددها من نفوذ شعبي متنامٍ لمنافستها في غزة؟
وثانيها: هل الخطوات المعلن عنها تجاه السلطة بما في ذلك تقديم مبلغ 75 مليون دولار هي بمثابة تزويد أنبوب الأكسجين الأميركي بعد أن نفد بما يكفي لإبقاء قدرة على التنفس لا أكثر؟
وثالثها: هل هنالك جدية وعلى نحو عاجل في فتح ملف التسوية من جديد وبصيغة جديدة، يشارك فيها الإقليم والعالم، وإلى أي مدى تملك إدارة بايدن قدرات حاسمة في هذا المجال؟
ورابعها وليس آخرها بالطبع: إلى أي مدى تستطيع إسرائيل التشويش على التوجهات الأميركية الجديدة وتغيير اتجاهها، واضعين في الاعتبار أن ما تراه إسرائيل منحة تاريخية من ترمب تستحق التمسك بها والذود عنها رغم رحيل صاحبها عن مركز القرار في واشنطن؟
أسئلة تنتظر أجوبة ليس بالاستنتاج والتقدير وإنما بالمعلومات، ولا جدال على أن أسئلة بهذا الحجم تنطوي على أسئلة فرعية كثيرة.
الجواب يبدأ من قراءة موضوعية للتطورات في إسرائيل أولاً. بقصد أو عن غير قصد فإن استعصاء التشكيل الحكومي واحتمالات ولادة حكومة جديدة أو الذهاب إلى انتخابات خامسة، كل ذلك يكفي لأن تعد إسرائيل نفسها في إجازة طويلة الأمد تعفيها من مجرد الحديث في أي تسوية مع الفلسطينيين، وفي إسرائيل خاصية ينبغي الانتباه إليها وهي أن ما تراه مستحيلاً في مجال التسوية مع الفلسطينيين يقابله ما تراه ضرورياً في مواصلة العمل لخلق أمر واقع على الأرض يطوّر الاستيطان، ويوفّر سيطرة متنامية على الحياة الفلسطينية حاضراً ومستقبلاً، ذلك أن المتنافسين على السلطة والقرار هناك يتّحدون في أمر واحد هو الابتعاد عن طرح أي أفكار أو مواقف في مجال التسوية مع الفلسطينيين، ولقد خلا هذا الأمر نهائياً من برامج القوى المتنافسة على مدار الانتخابات الأربع التي تمّت وحتى الخامسة المحتمل أن تتم.
الأميركيون يختلفون مع نتنياهو في إفراطه في استخدام القوة ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، إلا أنهم يتفقون عملياً مع إسرائيل في تفهم مبررات ابتعادها عن خيار السلام حتى لو كان أميركياً وتفضيلها للتطبيع، ويتفقون كذلك على استثمار صراع الشرعيات على الساحة الفلسطينية كمبرر يرونه مقنعاً للإحجام عن طرح مبادرة سياسية، فمع مَن يتحدثون في هذا الأمر، مع ملاحظة أن الحديث مع رام الله في مجال إدارة الأزمة يختلف كثيراً عن الحديث معها في مشروع تسوية نهائي؟
الخلاصة بتحديد أكثر...
لا مجال لنفي أو التقليل من قيمة المتغيرات الإيجابية التي أحدثتها الحرب الأخيرة لمصلحة الفلسطينيين، وحضور قضيتهم من جديد على كل المستويات. هي متغيرات كثيرة ونوعية وعميقة، بل إنها أظهرت مصداقية للقول إن ما كان قبل الحرب الأخيرة ليس كما بعدها، غير أن البناء على المتغيرات لن يتم بصورة تلقائية ولا لمجرد التعويل على استفاقة العالم ولومه لنفسه على تقصيره وإهماله أو حتى تواطئه على بقاء المأساة الفلسطينية من دون علاج أو حل، كما أن العامل الأميركي الذي عوّل الفلسطينيون عليه كثيراً ولمسوا قدراته من خلال التجربة لن يكون حاسماً أمام القدرات الإسرائيلية في التأثير عليه من داخله، لذا نعود من جديد إلى بيت القصيد، البيت الفلسطيني الذي لا يزال منقسماً رغم توحد ساكنيه على نبض واحد وفعل واحد شمل كل مكان يوجد عليه فلسطينيون ومتعاطفون معهم، إلا أن ما يقلق حقاً هو... رغم الوحدة الشعبية وقوة تفاعلاتها على كل المستويات فإنَّ الرسالة الأولية التي تلقاها العالم من جانب الناطقين باسم الحالة الفلسطينية جاءت مقلقة وسلبية وواعدة بتبديد الإنجاز.
لقد ظهر الانقسام من جديد حتى على بدهية إعمار غزة كأن كل هذا الدمار والموت والاشتعال يوظَّف في خدمة الأجندات لا في خدمة القضية الأساسية. ومن هنا ينبغي أن يبدأ الاستثمار الحقيقي لما أنتجته الحرب الأخيرة من تفاعلات إيجابية تصلح للاستخدام لمصلحة القضية والشعب، وليس للاستخدام المغاير في مجال المفاضلة بين الأجندات.