داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

ضمير إسرائيلي ميت

أثبت الشعب الفلسطيني المجاهد مراراً أنه لا يوجد أحد يستطيع لي ذراعه وإرغامه على نسيان وطنه ومقدساته وشهدائه. لقد نزف الفلسطينيون دماءً ساخنة طوال أكثر من 70 عاماً، وتداخلت ظروف قاسية وشائكة في إلحاق موجات من خيبة الأمل كلما بدا في الأفق ما يقترب بالأحلام المؤجلة من الواقع الممكن.
لكن هذا الشعب الباسل والصابر ازداد يوماً تلو آخر تمسكاً بحقوقه الإنسانية والسيادية والأخلاقية مهما كانت التضحيات. وهذا ليس من باب المبالغة أو التمنيات، فشواهد القبور التي نبتت فوقها شقائق النعمان تروي قصة شعب صاحب ضمير وطني يستحق أن يعيش مثل غيره من الشعوب في دولة مستعادة محررة بعد سلب طويل ومرير.
في كل الحروب التي خاضتها الدولة اليهودية ضد العرب، والفلسطينيين في مقدمتهم، كان هدفها المعلن هو إبادة الشعب الفلسطيني، ليس عن طريق الفصل العنصري المعهود، ولكن عن طريق الإبادة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة الكريهة. وحسناً فعلت «الشرق الأوسط» حين ترجمت قبل أيام ما نشرته صحيفة «هآرتس» العبرية التي تصدر في تل أبيب من أن «الجرائم العديدة لقتل عائلات فلسطينية بأكملها في القصف الإسرائيلي على غزة وتوجيه ضربات فتاكة للخدمات الإنسانية الأولية وضرب البنى التحتية وحرمان الناس من المياه والكهرباء، كلها تنفذ بشكل مخطط ولم تكن أخطاء، كما زعم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو والمتحدث باسم الجيش والحكومة». لقد كشفت هذه الصحيفة اليهودية اليسارية التي تُعتبر من أهم الصحف الإسرائيلية وأقدمها، (تأسست في عام 1919) عن توجهاتها بالدعوة إلى الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إن بعضاً من صحافييها مساندون في مقالاتهم لحقوق الفلسطينيين ودعوا خلال المواجهة الصاروخية الأخيرة في غزة إلى وقف العمليات الهمجية فوراً لأن مشكلة غزة لا تُحَلّ عسكرياً. وأكدت الصحيفة «أن الغارات الإسرائيلية التي يتم اختيارها من (بنك أهداف) تتم وفق قرارات عليا وبموافقة رجال قانون عسكريين مرافقين للحملة العدوانية، والغرض من وجودهم هو ضمان عدم التورط في ملفات جنائية في محكمة لاهاي لجرائم الحرب». وكشفت الصحيفة أن آباء وأطفالاً ورُضّعاً وأجداداً وأشقاء وأبناء أخ وأبناء أخوات لقوا حتفهم معاً عندما قصفت إسرائيل منازلهم التي انهارت عليهم في ظلام الليل.
من الأكاذيب الجديدة «المستجدة» على غرار جائحة (كوفيد - 19) ما أعلنه الجيش الإسرائيلي قبيل بعض عمليات قصف أبراج وعمارات وأهداف في غزة خلال المواجهات الأخيرة، عن لجوئه إلى ما يُعرف باسم «روف نوكينغ» أي القرع على السطح، لتحذير السكان لإخلاء تلك المباني قبيل ضربة صاروخية وشيكة.
والتفاصيل كما أوردتها «الشرق الأوسط أون لاين» أن مالك أحد الأبراج التجارية في قطاع غزة المحاصر من قبل إسرائيل منذ نحو 15 عاماً، تلقى اتصالاً هاتفياً تحذيرياً من قبل ضابط إسرائيلي لإخلاء المبنى الذي يضم مكاتب وسائل إعلام عالمية في غضون ساعة واحدة قبل قصف البرج الذي يضم 13 طابقاً.
وهذا التحذير الذي يسعى الجيش الإسرائيلي عبره إلى ترويج أكذوبة عن «يقظة ضمير» لتلافي سقوط ضحايا مدنيين، سبق أن استخدمه الجيش الإسرائيلي في عام 2009، ولجأ إليه أيضاً الجيش الأميركي في العراق في عام 2016، إلا أن المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان فضحت هذه الأكذوبة «الضميرية» مؤكدة أن الطلقة التحذيرية، وهي عبارة عن صاروخ فارغ، لا تعفي القوات المهاجمة من مسؤولياتها بموجب القانون الدولي لحماية المدنيين، فالجيش الإسرائيلي يحاول أن يتبرقع بـ«أسباب أخلاقية» أو «يقظة ضمير ميت» للإيحاء بأنه يريد أن يضع حداً للأضرار «الجانبية» على المدنيين، خاصة بعد أن باشرت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً موسعاً حول جرائم حرب إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
لكن المواطن الغزاوي الفلسطيني محمد الحديدي يتساءل بلوعة: لِمَ لمْ يتلق أي اتصال لتحذيره قبل قصف مخيم اللاجئين، عندما تم قتل زوجته وأربعة من أطفاله الخمسة حيث كانت العائلة تمضي ليلتها المرعبة الأخيرة؟ وقالت سارة حشيش المتحدثة باسم منظمة العفو الدولية في الشرق الأوسط إن المنظمة «تعتبر أن إطلاق تحذير لا يعفي القوات المهاجمة من المسؤولية بموجب القانون الإنساني الدولي لحماية المدنيين».
في أغنية «القدس العتيقة» تقول جارة القمر فيروز:
خَلّي الغنية تصير... عواصف وهدير- يا صوتي ظَلّك طاير... زوبع بها الضماير- خَبّرهن عللي صاير... بلكي بيوعى الضمير.
لحسن الحظ فإن أكثرية الناس الساحقة في العالم هم من أصحاب الضمائر الحية الذين خرجوا في مظاهرات حاشدة في عواصم ومدن رئيسية في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وبريطانيا والسويد والنرويج وفرنسا وماليزيا وإندونيسيا وغيرها استنكاراً لقيام إسرائيل بقتل المدنيين الفلسطينيين، خصوصاً الأطفال والنساء في المواجهات الأخيرة. وعربياً، وعالمياً، فإن صاحب الضمير هو الإنسان الصادق المؤمن العطوف البار الصالح الذي يرفض كل ما اصطلحنا على تسميته بالفساد والكفر والجريمة وما يدور في دائرتها. ولكلمة الضمير مرادف آخر في اللغة العربية هو «الوجدان».
وقرأت أن علماء جامعة «هارفارد» الأميركية توصلوا إلى نظرية مفادها أن كونك حي الضمير، أو تعمل بما يمليه الضمير أكثر فأكثر، قد يمثل فرصتك لصحة أفضل وحياة أطول. ومع ذلك أمامنا أمثلة كثيرة عن أصحاب ضمائر ميتة لا يزورهم الموت إلا في أرذل العمر، بل إن الموت لا يتذكرهم مثل السفاح الصهيوني شارون الذي عاش منذ عام 2006 على الأجهزة التي تنظم تنفسه في غيبوبة كاملة حتى تعفن في عام 2014.
وعلى دولة تل أبيب العنصرية أن تدرك أنه لا سلام للإسرائيليين إلا بسلام دائم للفلسطينيين تحت سيادة دولتهم الكاملة في حدود 4 يونيو (حزيران) 1967. وإذا كان الرئيس الأميركي بايدن جاداً في رغبته في السلام فإن عليه أن يتمسك بحل الدولتين، فهذه فرصة ينبغي ألا تضيع، خصوصاً بعد أن أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20 مايو (أيار) الحالي ضرورة تنفيذ قرارات الأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان العنصري غير المشروع، وإقامة سلام دائم وعادل.
يا صوت فيروز ظلك طاير... زوبع بها الضماير... خبرهم عللي صاير... بلكي بيوعى الضمير.
لكنه ليس ضمير القاتل الإسرائيلي الذي قصف أطفال غزة في نومهم... فلم يكملوا أحلامهم.