خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل ننتقد «حماس» في وسط الأزمة؟

أزمة حي الشيخ جراح في القدس ليست هينة؛ تجسيد متكامل الأركان لمشكلة «التمييز» الإثني داخل إسرائيل، ليس في سلوك فردي، ولا في قرار سياسي، بل في القانون، المرجع العدلي وجهة الإنصاف المفترضة. والمقصود بالتمييز هنا سريان القانون على مواطنين من دون غيرهم، بحيث يحق لإسرائيل استخدام القانون لإخراج مواطنين فلسطينيين من بيوتهم استناداً إلى عقود تمليك تعود إلى ما قبل 1948، بينما لا تفعل الشيء نفسه مع المواطنين اليهود الذين استولوا على ممتلكات وبيوت فلسطينيين في الحقبة ذاتها. حين تكون العدالة انتقائية فما بالك بالظلم!
لكن اسمحوا لي أن أدلي بدلوي هنا:
هذه الأزمة تختلف تماماً عن الصراع الذي تتصدر فيه «حماس»، فتطلق صواريخ بكثافة حربية على تجمعات سكنية إسرائيلية، لتجر فلسطينيي غزة إلى دائرة جديدة من المأساة، يزيدها سوءاً أنهم يتحولون فيها وهم ضحايا إلى ظالم نال جزاء اعتدائه. تنزوي عن الإعلام العالمي المظلمة الأساسية، وتحل محلها سردية جديدة مضرة لها: «جماعة إرهابية لديها القدرة على إطلاق آلاف الصواريخ في فترة وجيزة، على أهداف بشرية، في مقابل دولة تدافع عن نفسها». والنتيجة تسابق قادة العالم إلى التعبير عن دعمهم وتأييدهم للدولة المدافعة، ونسيان موضوع الشيخ جراح، كما رأينا.
يظل السؤال: هل ننتقدها في قلب الأزمة؟
على أكتاف مقاومة إسرائيل في جنوب لبنان صعد «حزب الله»، واستطاع أن يحتكر اتجاه الخطاب في هذا الشأن 18 عاماً، فضلاً عن احتكار فعل المقاومة، وملاحقة اللبنانيين الذين يريدون أن ينالوا هذا «الشرف». ومحصلة ذلك احتكار السلاح واحتكار الشرف، كليهما. وفي الأوكازيون احتكار المنطق السياسي أيضاً. فلا مجال لرؤية فيها انتقاد الحزب وهو في قلب الأزمة. مَن فعلوا ذلك صُوروا على أنهم يطعنون ذلك «المقاتل الشريف» في ظهره. خمن ماذا حدث؟
صباح الخير. أتيتكم من المستقبل لأعرض عليكم ما عرفنا من حقيقة المقاتل الشريف.
صباح الخير مرة ثانية، عذراً، علمت الآن أنني لست من المستقبل ولا يحزنون. إننا عاصرنا معاً ما فعل «حزب الله» ولا يزال في لبنان المحتل لصالح فئة فيه، تحتكر قرار الحرب والسلم، والرخاء والمشقة، والعلاقات الخارجية، وتسخّر كل هذا لرغبة دولة إقليمية توسعية. رأينا أين وصل لبنان. وانكشف أمامنا معاً المشروع الحقيقي الذي كان «حزب الله» يضع أساساته بينما المرفوع على اليافطة شعار المقاومة. وتابعنا معاً تمدد الحزب إلى الدول المجاورة والبعيدة وتشكيل مصائر شعوبها. صدق أيضاً أنه حزب مقدس، لا يعارضه ولا ينتقده إلا خائن مستحق للاغتيال جسدياً أو معنوياً.
لكنني محتار؛ إن لم أكن من المستقبل، إن كنا نعلم جميعاً ما حدث، لماذا إذن نكرر مع «حماس» ما فعلنا مع «حزب الله»؟
حاولنا على ما يبدو أن نداوي الحماقة فأعيت من يداويها. اعذروا صراحتي. قررنا مرة أخرى أن نصمت وقت الأزمة، أن نُلدغ من الجحر نفسه، مدفوعين بالسردية نفسها. المقاتل الشريف…
وهذا خطأ جسيم. ذلك أن الانتقاد في وقت الأزمة هو الوحيد ذو القيمة. الإحجام عنه ليس نبلاً، بل افتقار إلى بصيرة سياسية متجاوزة للشعارات، وشجاعة في مواجهة الجماهير الزاعقة، وحملات التخوين الجاهزة، التي يقودها ويقاد إليها مشاهير الفن والكرة والأدب، مصحوبة غالباً بالابتزاز وادعاءات الشرف والنخوة، وأحياناً بالمسبات الصريحة للرافضين.
ولا أدري لماذا يميل إنسان عاقل لحركة رأينا بالفعل، لا بالتحليل ولا التوقع، فعلها في نطاق سلطتها. رأينا بالفعل، لا بالتحليل ولا بالتوقع، سلوكها مع منافسيها السياسيين من الفلسطينيين. رأينا بالفعل، لا بالتحليل ولا بالتوقع، نواياها تجاه مصر. رأينا انحيازاتها الإقليمية. ومن المايسترو الذي تتحرك وفق عصاه. ومن بديله. وأين تستثمر رصيدها من الشعبية التي اختلستها من مسارها الأساسي نحو الفلسطينيين.
انتقادك لـ«حماس» في وقت الهدوء بلا قيمة. «حماس» تذبل وتتيبس عضلاتها في الرخاء، من تلقاء ذاتها، من دون حاجة لانتقادك. «حماس» لا تعوّل على وقت الهدوء ولا ما يحدث فيه. إنما كنظيرها اللبناني تنمو وتزدهر وترتفع أسهمها في بورصة الأزمات. وهنا فقط يكون لانتقادك معنى.
إن كنت تخلط بين دعم «حماس» ودعم الفلسطينيين، فعليك أن تراجع وعيك السياسي، وقدرتك على الرأي السديد. لأن انتقاد «حماس» يصب في صالح الفلسطينيين الآن وغداً. عزل «حماس» عن الخطاب المؤيد للفلسطينيين وحقوقهم يقويه، ويعفي الفلسطينيين من تحمل أوزار الجماعة. إثبات «حماس» قدرتها على التحكم في الرأي العام عبر القضية الفلسطينية يقوي حضور تيار التطرف ويرفع أسهمه، ويحوله في نظر العالم إلى الرقم الصعب الذي يستحيل تجاوزه، و«ترجع تشتكي». كما أنه يشين الرأي العام المؤيد للفلسطينيين، كما أشان علو صوت التطرف الإسلامي صورة المسلم العادي، ليس صورته فقط في الحقيقة، بل وعيه وسلوكه ونظرته إلى العالم. وحين تقضي سنوات في محاربة الخطاب المتطرف والمتطرفين، ثم تصطف معهما مهرولاً في أول أزمة تكون كمن شدت خيط غزلها فنقضته بعد كد وكبد. في الأزمات تختبر رجاحة العقل، وتحت الضغط تختبر صلابة المنطق.
أخيراً، انتقادك «حماس» لن يؤثر على الموقف السياسي لدولتك. مصر ستظل تدعم الفلسطينيين لألف سبب وسبب، أبسطها الامتداد الجغرافي الطبيعي، والثقافي والبشري. فلسطين بالنسبة لمصر قضية أمن قومي لا خيار فيها. بالعكس، يتقوى موقف دولتك ويكتسب مزيداً من المصداقية حين يقترن بانتقاد شعبي لـ«حماس»، لكي تفهم أنه ليس خضوعاً لمزايدات، ولا إقراراً على سلوك، ولا شيكاً على بياض. انتقادك لـ«حماس» رسالة وعي وحذر وتحذير من عاقبة امتداداتها التنظيمية والإقليمية وأثرها في تغير الوعي الشعبي.