سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرسان البر وأمراء البحار: من عكا إلى هرمز

سوف يبدأ آل بولو الثلاثة الرحلة الكبرى إلى الصين، من عكا، على ساحل فلسطين: الأب نيكولو تيكو، وشقيقه مافيو، وبطلنا ماركو. وكان ذلك قرابة سبتمبر (أيلول) 1271. يقول ماركو في كتابه إن الرحلة استغرقت ثلاث سنوات ونصف السنة، أي بمعدل 5 كيلومترات في اليوم، بسبب تكاثر الثلوج والعواصف في الطريق. غير أن الخبراء يشكون في ذلك، لأن رحالة آخرين قطعوا مسافات مشابهة في فترات أقل.
لعل أسباب التأخير كانت الحروب وإشاعات الحروب بين المغول، ما أعاقهم في الانطلاق. وكان الظاهر بيبرس، حاكم مصر، يقاتل المغول والصليبيين على طول ساحل فلسطين. وبسبب معاركه الأسطورية ما بين دمشق والقاهرة، دب الذعر في جميع الأنحاء وسكانها.
امتد طريق الثلاثة نحو شرق تركيا (أرمينيا اليوم)، ثم عبر العراق، فإلى بلاد فارس (إيران اليوم)، ثم جنوباً إلى ميناء هرمز (بندر عباس اليوم). هنا تختلط سردية ماركو كالعادة، بين الإشاعة والأسطورة والحقيقة، لدرجة أن الجبال تتحرك من مكانها. وهو لا يأتي على ذكر بغداد إلا في روايته عن غزو هولاكو قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً.
من غرب إيران اتجهت القافلة عبر الجبال والسهول والصحاري الرملية الحارة نحو هرمز. وفي ذلك الصيف (1272 م) كان الحر قاتلاً والأجساد تتفتت ودرجات الحرارة تزيد على 52 درجة، ناهيك برياح السموم. لكن إذا كان ذلك الجحيم صحيحاً، فلماذا تصر الناس على الإقامة فيه؟ غير أن هرمز كانت ميناء مزدحماً، ومركزاً تجارياً مهماً، تأتيها البهارات والعطور من الهند.
تأخر الركب قليلاً في هرمز، كما يُفهم من مذكرات ماركو. ربما أرعبهم مشهد البحر الهائل. ربما حالة المراكب العربية الصغيرة والعتيقة، الملصق خشبها بزيت الحيتان. وربما أيضاً الوضع الصحي. لقد أصيبوا جميعاً بإسهال شديد.
ثمة هفوات كثيرة في «رحلات ماركو بولو»، لكن الغالب فيها حقائقها وأهميتها. أما الهفوة الكبرى فإنه لم يدون مشاهداته في أوانها، بل انتظر إلى حين عودته إلى البندقية بعد عشرين عاماً، لكي يملي أحداثها على صديق له. ومثل هذه المدة الطويلة تؤدي بشكل تلقائي، إلى أمرين: إما نسيان بعض التفاصيل أو المغالاة في سرد بعضها. وقد وقع ذلك الخطأ أيضاً لأشهر مواطن في تاريخ طنجة، وأحد أشهر رحّالة العالم، و«شيخ الرحالة المسلمين»، ابن بطوطة، الذي قام برحلاته في القرن التالي لسلفه الإيطالي. فبعدما قام بأطول رحلة في التاريخ، قام بإملاء تفاصيلها من الذاكرة.
وكان القاسم المشترك الآخر بين المسافرَين الأسطوريين، عشق النساء، الذي أفرد له الإمام السيوطي بحثاً طويلاً. والفارق أن الإيطالي اتخذهنَّ بلا التزام، فيما التزم ابن بطوطة قوانين الزواج.
إلى اللقاء...