خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

ما أحلى الاستعمار القديم!

الاحتلال البريطاني لمصر جاء في ظلّ صراع مادي ملموس في زمن إمبراطوريات توسعية. كان العالم فيه رقعة شطرنج، والدول مربعاتها، والقوى الاستعمارية لاعبين حولها. أي دولة مهمة، أو مجاورة لدولة مهمة، أو على الطريق إلى دولة مهمة، ستجدها تحت الاحتلال.
هذا الاحتلال المادي كان مكلفاً لدولة الاحتلال نفسها، لأنَّ عليها غالباً أنْ تنتزعَ الدولة المعنية من مخالب احتلال سابق. مصر وغيرها لم تكن دولاً مستقلة ثم احتلت. بل كانت دولاً خاضعة لمستعمر انتزعها منه مستعمر جديد. ولكي تحقق الدولة الاستعمارية رغبتها السياسية في منطقة ما، عليها أن ترسل جنوداً ومعدات، وأن تغامرَ باحتمال النصر أو الهزيمة والخسارة البشرية. لقد كان قراراً يحتاج إلى تفكير وخطط.
ولأنَّه لم يكن استعماراً استيطانياً كان على بريطانيا الحفاظ على توازن معين داخل مصر. لو اختل هذا التوازن ستخاطر بقلاقل قد تفقدها السيطرة على البلد. يدخل في حساب التوازنات أهمية أن يلمس الناس إصلاحات، رأينا منها في مصر خطوط القطار والتنظيم الإداري والإصلاحات السياسية والدستورية التي نتج عنها تحسن في مناح عديدة، تعليمياً وثقافياً وفنياً.
ومن ضمن التوازنات، والمنافع المشتركة، ترسخت حتمية أن تحافظ سلطة الاحتلال على ثروات البلد الأساسية. جريان النيل في مصر والسودان على سبيل المثال كان حيوياً للبلدين، وبالتالي مهم لسلطة الاحتلال، لكي تستفيد هي الأخرى.
من كل هذا، لو عشت في تلك الفترة لاعتبرت أن الاحتلال البريطاني أفضل من العثماني. فحتى الاستعمار درجات. ولو لم أكن مصرياً، مدفوعاً بمشاعري الوطنية، وأعيش في عصرنا الحاضر بأفكار حقبة ما بعد الاستعمار، لقلت إنَّ الاحتلال البريطاني كان إيجابياً. لكن ربما لو تُفتح أبواب افتراضية، فالمستقر عندي بانتمائي الوطني، والحقبة التي أعيش فيها، أنَّ كل الاستعمار سيئ.
هذه ركيزة من ركائز خطاب حقبة ما بعد الاستعمار. نُجري فيها ونحن مرتاحو الضمير أحكامنا الحالية على حقب سابقة من التاريخ. نُفرغ فيها شحنة غضبنا وأحكامنا الأخلاقية السياسية، فلا نلاحظ الوضع العالمي الراهن الذي نعيش فيه.
القوى العظمى التي بزغت في حقبة ما بعد الاستعمار تلعب على هذه الفكرة. بل إن كثيراً من وكلائها المحليين يلعبون على نفس الفكرة. الاتحاد السوفياتي كان يعتبر نفسه نصيرَ الشعوب، وكان وكلاؤه المحليون يرددون شعاراته، ويلعنون الاستعمار السابق، بينما كان في الحقيقة أسوأ لأوكرانيا وأوروبا الشرقية من الحقبة الاستعمارية الصريحة. والولايات المتحدة تتباهى بأنها لم تكن يوماً قوة استعمارية. وكتابات نقد الحقبة الاستعمارية تجد تربة خصبة في الأكاديميات الأميركية. ومن هناك امتدت ليرددها يساريون وإسلاميون حول العالم. كانوا سابقاً يهتفون تسقط أميركا، أو الموت لها، وصاروا اليوم وكلاءها المحليين. وإن كان الكلام لا يزال يجري على ألسنتهم: يلعنون الاستعمار بالنهار، ويهتفون لتدخلات بايدن بالليل.
الاستعلاء الأخلاقي المصاحب لتلك الأفكار يمنح المرء راحة ضمير سياسية وثقافية وأخلاقية كاذبة. يبرر بها لنفسه أفعالاً أسوأ في أثره من الاستعمار التقليدي. قارن بين حقبة استعمار بريطانيا للعراق في القرن السابق، وبين حقبة «لا استعمار» أميركا له، حيث أسقطته وحلت جيشه، ثم تركت الجمل بلا حمل، بلا مسؤولية عن أمنه واستقراره ومصالحه الحيوية، بلا خطة لمستقبله، ثم سلمته لإيران. ليدفع العراق والمنطقة بأسرها ثمن «اللااستعمار» الأميركي.
رئيس التقدميين، جو بايدن، افتتح عهده بقرارين مشهورين؛ أحدهما إلغاء ربط مساعدات الولايات المتحدة لإثيوبيا بموقفها من الالتزام بما تم التوصل إليه في مفاوضات سد النهضة (برعاية أميركية)، وثانيهما رفع اسم الحوثيين من قائمة الإرهاب. الأول تهديد حيوي لمصر، والثاني تشجيع على تهديد أمن السعودية. ماذا تكسب الولايات المتحدة منهما؟ لا أعلم. ماذا يكلف الولايات المتحدة؟ ربما لا شيء. أو ربما المراهنة على علاقتها بحليفين. ما نعلمه بالتأكيد تكلفته على المواطن المصري أو السعودي.
القرار الأميركي هنا لم يكتسب قوته وشرعيته من المغامرة بأرواح أميركية، ومال وعتاد. أبداً. اكتسب شرعيته من صوت الناخب الأميركي. المفارقة أن القرار لا يهمه ولن يؤثر عليه، والفشل فيها مأمون انتخابياً بالنسبة للإدارة الأميركية. نستطيع أن نقول إنها صفقة «ديمقراطية» ناجحة. تبيع فيها أميركا قرارات سياسية للوبيات تخدمها انتخابياً، وفي نفس الوقت تضمن أن الفشل فيها لن يؤثر عليها في الانتخابات التالية. في التحليل الأخير، فهي تقايض أصواتاً انتخابية مرجحة توفرها لوبيات مقابل حياة فلاح مصري أو أمن مواطن سعودي أو سلامة مواطن عراقي.
الموضوع تحول إلى شطرنج في يد طفل. يجعلنا نترحم على أيام الشطرنج في يد بريطانيا وفرنسا وهولندا.
حتى التأثير الاقتصادي - النقدي السلبي الذي كانت القوى الاستعمارية تدخله في حساباتها حُيِّد إلى حد كبير بإنهاء الارتباط بين الذهب والعملة، بين الاقتصاد والنقد. والقرارات متحررة أيضاً من منافسة «مادية» لقوى استعمارية أخرى متربصة بخاناته على الرقعة. لقد صار صاحب السطوة السياسية العالمية يهددنا بالعقاب إن لم نكن على هواه، من دون أن نحقق في قربه مصلحة إيجابية حقيقية ملموسة.
كاتب هذه السطور ليس من أنصار معاداة أميركا. على العكس تماماً. بالنسبة لي هي شعب ودولة مثيران للإعجاب كحاضرة مشرقة على قمة جبل. ثقافة عمادها فلسفة أصيلة في رؤية العالم، متحررة من تركة التاريخ، شجاعة ومغامرة. لكن يبدو أن خليط «السوشيال ميديا» والحروب الحالية رخيصة التكاليف، والاصطفاف الكمبيوتري العابر للحدود، وتحكم الولايات المتحدة في العلاقة بين الاقتصاد والنقد، قد شجع على بروز سيئات الديمقراطية. وأن كل هذا تضافر حتى صار الواقع المهيمن. ولم نعد نملك خيار تجاهله، أو تأجيل التعامل معه. ربما لا ندري أننا في خضم حركة استقلال وطني جديدة، بمفاهيم معاصرة.