في عام 1957، نشر إسحاق أسيموف رواية الخيال العلمي «الشمس العارية» التي تتناول الحياة في مجتمع يعيش فيه الناس في مناطق منعزلة، وتزودهم الروبوتات باحتياجاتهم ويتفاعلون فقط عن طريق الفيديو. وترتكز الحبكة على الطريقة التي يؤدي بها الافتقار إلى التواصل وجها لوجه إلى تشويه شخصياتهم.
بعد عام كامل من العمل من المنزل - وإن كان يخدمهم بشر أقل حظاً بدلاً من الروبوتات – لا بد أن تغيرت حياتهم، لكن ماذا سينتج هذا التغيير بمجرد انحسار الوباء؟
بالطبع، لا أحد يعرف الإجابة، لكن ربما تستند تكهناتنا إلى بعض المتشابهات والنماذج التاريخية.
أولا، يبدو أنه من الآمن توقع أننا لن نعود تماماً إلى الطريقة التي اعتدنا العيش والعمل بها. فقد وفر الوضع الحالي سنة كاملة من العزلة والعمل عن بُعد حالة كلاسيكية من حالات ما يطلق عليه حماية الصناعات الناشئة، وهو مفهوم يرتبط عادة بسياسة التجارة الدولية التي تم وضعها لأول مرة بشكل منهجي من قبل ألكسندر هاميلتون.
فقد أكد هاميلتون أن هناك العديد من الصناعات التي يمكن أن تزدهر في الولايات المتحدة الفتية ولكنها لا تستطيع الانطلاق في مواجهة الواردات. فبالنظر إلى الابتعاد عن المنافسة، يمكن لهذه الصناعات أن تكتسب ما يكفي من الخبرة والتطور التكنولوجي لتصبح قادرة على المنافسة.
فلطالما كانت حجة الصناعة الناشئة خادعة كأساس للسياسة – إذ كيف تعرف متى تكون صالحة؟ وهل تثق بالحكومات لاتخاذ هذا القرار؟ لكن الوباء جعلنا أفضل بكثير في استغلال إمكانيات العمل عن بُعد. ولذلك بات بعض ما اعتدنا القيام به ممارسات لن تعود.
ورغم ذلك الجزم، إذا عدنا للتاريخ للاستدلال، فإن الكثير من أساليب حياتنا القديمة في العمل والعيش ستعود.
وإليكم وجهاً مشابهاً: ما فعله وما لم تفعله الإنترنت بالطريقة التي نقرأ بها الكتب. فقبل عقد من الزمن اعتقد العديد من المراقبين أن الكتب الورقية والمكتبات التي تبيعها على وشك الانقراض. وتحقق بعض ما توقعوه: فقد استحوذ القراء الإلكترونيون على حصة كبيرة من السوق، وتعرضت المكتبات الكبرى لضربة مالية كبيرة.
لكن شعبية الكتب الإلكترونية استقرت في منتصف العقد الماضي، ولم تقترب من تجاوز الكتب الورقية. ورغم معاناة سلاسل الكتب الكبيرة، كانت المكتبات المستقلة في الواقع مزدهرة.
لماذا كانت ثورة القراءة محدودة للغاية؟ سهولة تنزيل الكتب الإلكترونية أمر واضح، لكن بالنسبة للعديد من القراء، فإن هذه الراحة تقابلها عوامل أكثر دقة. فتجربة قراءة كتاب ورقي تختلف بالنسبة للكثيرين. فبالنسبة للعديد من الناس، هي أكثر إمتاعا من قراءة الحبر الإلكتروني. أحب أن أقول إنني من خلال الإنترنت يمكنني العثور على أي كتاب أبحث عنه. فقد قمت بتنزيل نسخة من كتاب «الشمس العارية» قبل ساعات قليلة من كتابة هذا المقال. لكن ما أجده في محل لبيع الكتب، كتب لم أكن أبحث عنها ولكن انتهى بي الأمر إلى اقتنائها.
إن مزايا العمل عن بُعد واضحة للعيان. فمساحات المعيشة والعمل أرخص بكثير، والتنقلات قصيرة أو غير موجودة، ولم تعد بحاجة إلى التعامل مع النفقات والانزعاج من ملابس العمل الرسمية. على النقيض من ذلك، فإن مزايا العودة إلى العمل الشخصي ستكون أقل نسبياً، لكن وسائل الراحة في الحياة الحضرية ستكون أكبر.
لكن هذه المزايا الدقيقة هي ما يدفع اقتصادات المدن الحديثة إلى الأمام حتى ضرب وباء «كورونا» حياتنا. فتلك المزايا هي ما كانت تغذي الاختلاف الاقتصادي المتزايد بين المناطق الحضرية الكبيرة ذات التعليم العالي وبقية البلاد.
لن يكون إحياء المدن عملية رائعة على الدوام؛ فسيعكس الكثير منها على الأرجح تفضيلات الأميركيين الأثرياء الذين يريدون رفاهية المدن الكبيرة. وفي هذا الصدد، قال أحد المديرين الماليين بوكالة «بلومبرغ» للأنباء، إن «المشكلة الرئيسية في الانتقال إلى فلوريدا هي أنه يتعين عليك العيش في فلوريدا». ولكن رغم ازدهار المدن جزئياً لأنها تلبي أنماط حياة الأثرياء فإن ثروتهم وقوتهم تفعل الكثير لتشكيل الاقتصاد حيث تزدهر المدن أيضاً لأن الكثير من جلسات تبادل المعلومات تحدث خلال استراحات القهوة، ومكالمات الفيديو كونفرنس و«زوم» ليست بالبديل المناسب.
ووفق تعبير خبير اقتصاد العصر الفيكتوري العظيم ألفريد مارشال عن مراكز التكنولوجيا في عصره، «لا تصبح ألغاز التجارة ألغازاً. وستكون سهلة وسيتعلمها الناس».
لذا فإن أفضل رهان هو أن الحياة والعمل، في 2023 ستبدو مثل الحياة والعمل في عام 2019، وربما أقل من ذلك بقليل. قد ننتقل إلى المكتب بوتيرة أقل مما اعتدنا عليه، وقد تكون هناك وفرة في المساحات المكتبية الحضرية. لكن معظمنا لن يكون قادراً على البقاء بعيداً عن ضوضاء الناس الصاخبة.
*خدمة «نيويورك تايمز»
7:49 دقيقه
TT
وباء «كورونا» ومدينة المستقبل
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة