يتابع العالم ما يجري في أوروبا بصدمة بالغة، ذلك أن حملة توزيع اللقاحات داخل الاتحاد تعاني من الفوضى، وأخفقت في التحرك بسرعة أكبر من موجة جديدة من الإصابات بفيروس «كوفيد19»، والتي تفرض ضغوطاً هائلة على المستشفيات وتدفع نحو فرض مزيد من القيود التي تلزم المواطنين التزام منازلهم. واليوم، تشير التقديرات إلى أن عدد من تلقوا اللقاح من بين كل 100 فرد داخل الاتحاد الأوروبي يبلغ 11.8 شخص، ما يأتي في مرتبة متأخرة للغاية عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتين حققتا 34.1 و40.5 على الترتيب (وإن كان ثمة تباين بين الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي).
ورغم موافقة الهيئات التنظيمية داخل الاتحاد الأوروبي على أربعة لقاحات، فإن الحكومات تجابه صعوبات في توفير اللوجيستيات اللازمة لتوزيع اللقاح فعلياً على مواطنيها. أما جهود تشديد الضغوط على الشركات المصنعة للأدوية بخصوص نقص الإمدادات من اللقاحات، فرغم أنه من السهل على المرء تفهمها، فإنها بدأت تتخذ اليوم منحىً انفعالياً سيئاً مع انطلاق تهديدات بمصادرة الجرعات المخصصة للتصدير. ويبدو المشهد برمته سريالياً، بالنظر إلى حقيقة أن كثيراً من دول الاتحاد الأوروبي أوقفت استخدام لقاح «أسترازينيكا» هذا الأسبوع بسبب مخاوف من إحداثه تجلطات في الدم. وبذلك يتضح لنا أن اللقاحات يجري القتال عليها، بينما في حقيقة الأمر لا يجري استخدامها (استأنفت دول أوروبية عدة التطعيم باللقاح مجدداً - المحرر).
علاوة على ذلك، يبدو أن «صندوق التعافي من الوباء» التابع للاتحاد الأوروبي لا يقدم سوى القليل للغاية في وقت متأخر للغاية؛ ففي الوقت الذي أطلقت فيه إدارة (الرئيس الأميركي جو) بايدن خطة إنفاق مالي كبرى بقيمة 1.9 تريليون دولار، فإن استجابة الاتحاد الأوروبي المشحونة سياسياً والواهنة بوجه عام، من المحتمل أن تدفع بمنطقة اليورو للتأخر عاماً كاملاً عن الولايات المتحدة، فيما يخص التعافي والعودة لمستويات ما قبل تفشي الجائحة.
من جهته، قال رئيس «بنك الاحتياطي الفيدرالي» الأميركي جيروم باول: «آمل أن أرى أوروبا تتحرك أسرع من ذلك».
من ناحية أخرى، يبقى أمل في أن يكون بعض من هذا الأمر مؤقتاً أو من الممكن إصلاحه؛ خصوصاً أن الآفاق المستقبلية للقاح تتحسن. في الوقت ذاته؛ فإنَّ الشعبية القوية التي يحظى بها بعض قادة الاتحاد الأوروبي تمنحهم مرونة للتحرك واتخاذ إجراءات، وليس سبباً للقلق بخصوص الشبح التقليدي المتمثل في التوجهات الشعبوية المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي.
في هولندا، يستعد مارك روته لأن يصبح رئيس الوزراء صاحب فترة العمل الأطول في تاريخ البلاد، بعد أن جاء حزبه المنتمي لتيار يمين الوسط في المركز الأول في الانتخابات التي عقدت مؤخراً، بينما جاء المتشككون في الاتحاد الأوروبي في المركز الثالث.
وفي فرنسا، لا يزال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رغم أنه من المتعذر القول إنه يحظى بشعبية، يحقق ترتيباً أفضل في استطلاعات الرأي، عما كان عليه خلال فترة أعمال الشغب التي أتت بها حركة «السترات الصفراء»، والتي عبرت عن مشاعر الغضب إزاء الزيادات الضريبية وأسلوبه المتحفظ في التعامل.
ومع ذلك، فإن مزيج التردد والارتباك وتوجيه أصابع الاتهام السائد اليوم يعكس في جوهره خللاً أعمق، فهو يكشف عن حدود نمط القيادة السائد بالمشهد السياسي داخل الاتحاد الأوروبي. ويجمع هذا النمط بين احترام تكنوقراطية يقودها خبراء، وسياسات شعبوية ذات طابع شخصي تهدف لكسب رضا الجماهير. وجاء فوز ماكرون عام 2017 بمثابة نموذج لهذا الأمر: فهو شاب كان يعمل مصرفياً في السابق، وطرح نفسه بوصفه لا ينتمي إلى اليسار ولا إلى اليمين، وعمل على إنجاز وعده بقيادة حكومة ذات قدر أكبر من الكفاءة، من خلال الاعتماد على عناصر مختصة من خارج المؤسسة الحاكمة التقليدية. واجتذب التوجه غير الآيديولوجي قدراً أوسع من التأييد من المنصات المناهضة للاتحاد الأوروبي، ليس داخل فرنسا فحسب؛ وإنما كذلك في دول أخرى.
من ناحيته، وصف روته فوزه في انتخابات عام 2017 بأنه انتصار على «النمط الخاطئ» من الشعبوية.
أما نتيجة ذلك اليوم، فأزمة على صعيد صنع القرار الذي أصبح تكنوقراطياً وشعبوياً في الوقت ذاته؛ أو «تكنو - شعبوي»؛ مثلما وصفه الأكاديميان كريس بيكرتون وكارلو إنفرنيزي في كتاب جديد لهما؛ الأمر الذي يبدو متعارضاً مع الحاجة لاتخاذ قرارات صعبة خلال فترة جائحة. ويعدّ قرار تجميد الاعتماد على لقاح «أسترازينيكا»، والتردد المستمر داخل فرنسا حول ما إذا كان ينبغي فرض حالة إغلاق وطني من جديد، مثالين على كيف أن البحث التكنوقراطي عن «الإجابة الصائبة» المعتمدة على تحليل للأدلة المتاحة يمكن أن ينتهي به الأمر إلى خلق تكاليف كبرى بسبب التردد وعدم اتخاذ فعل.
الحقيقة أن الرغبة المستمرة في التوفيق بين وجهات نظر مختلفة لتجنب إثارة سخط أي شخص، تخلق «صعوبة بالغة أمام اتخاذ إجراء عملي»، حسبما شرح بيكرتون. كما أن حقيقة أن ماكرون، الذي يصفه مستشاروه بأنه علّم نفسه بنفسه حتى أصبح خبيراً في الأمراض، يضفي صبغة شخصية على هذه القرارات، من خلال عقد «مجالس دفاع» أسبوعية لإدارة الجائحة، لا تجدي سوى إثارة سخط الخبراء الحقيقيين وتهدد بتقويض الثقة العامة.
اللافت أن هذا التوجه بدأ يجتاح بروكسل هي الأخرى، حيث بدأت المفوضية الأوروبية ذات التوجه التكنوقراطي العتيد، بقيادة أورسولا فون دير لاين، في استكشاف الميول الشعبوية داخلها إزاء مسألة اللقاح. ومع أن التهديدات بحظر الصادرات إذا لم تنجز الشركات المصنعة التزاماتها، تبدو جيدة من الناحية النظرية، بالنظر إلى التزام قادة الاتحاد الأوروبي الأخلاقي والقانوني بحماية مواطني الاتحاد الأوروبي (ودافعي الضرائب)، فإنه بالنظر إلى سلسلة الإمداد العالمي الطويلة للقاحات، وتقديرات الاتحاد الأوروبي بأن الأمر سيستغرق على الأقل 18 شهراً ليحظى بالاستقلال الذاتي الكامل في هذا المجال، فإن مثل هذه التهديدات لا تحقق سوى زيادة مخاطرة إثارة سلوك مشابه في مختلف أرجاء العالم؛ وستكون النتيجة الحتمية لذلك إطالة أمد الوباء.
والتساؤل هنا: هل ثمة سبيل للخروج من هذا الوضع؟ ربما يكون من المفيد البدء بإقرار أهداف والسعي لإنجازها. لماذا لا يصدر قادة الاتحاد الأوروبي وعوداً بتحقيق المعدل ذاته لتوزيع اللقاحات القائم في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي ينبغي أن يكون ممكناً لأكبر سوق موحدة في العالم؟
المؤكد أن تنفيذ حملة فاعلة لتوزيع اللقاحات لن يفلح في طرح مفاجئ لجميع الإخفاقات الأوروبية، على الأقل بالنظر إلى الخلافات التي تلوح شراراتها في الأفق حول خطط الإنفاق والعودة المحتملة لحدود العجز. ومع هذا، فإنه بالنظر إلى استعداد ماكرون لخوض الانتخابات الرئاسية من جديد العام المقبل، واقتراب موعد رحيل (المستشارة الألمانية أنجيلا) ميركل عن السلطة، فسيكون تنفيذ حملة فاعلة لتوزيع اللقاحات إنجازاً كبيراً يمكن أن يعزز موقف الجانب «التكنوقراطي» على الأقل، إن لم يكن «الشعبوي».
وإذا كان هناك أمر واحد ينبغي لأوروبا التكنوقراطية أن تتمكن من إنجازه، فهو البيروقراطية الواضحة؛ وإلا فلن يكون المسؤولون التنفيذيون بشركات الأدوية الفئة الوحيدة التي تواجه خطر مواجهة عواقب وخيمة.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»