لم تكن السياسات الدولية بكل متغيراتها ولا نمط الإدارات المتعاقبة بكل آرائها وليدة اللحظات العابرة، ولا المواقف الناجزة، كما يطرح بعض المحللين السياسيين الذين يستقون مواقفهم حيال الأحداث من الصحف والشاشات من دون الرجوع إلى البعد النظري الحقيقي المحرك لهذه الإدارة أو تلك. بالمجمل، هي سياسات لها جذورها النظرية الضاربة. كان كسينجر يقول إن نيكسون معجب ومتأثر جداً بالفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، ولكل رئيس في الغالب مُثله الفلسفية والأدبية والنظرية، كذلك الأمر في النمط السياسي المتبع، اليوم لا نشهد فقط سياسة جديدة لها وجهة نظر مرنة مع إيران ومتقلبة مع السعودية، وإنما نواجه جيشاً من الأفكار التي بُنيت عليها هذه السياسات. في أميركا يومياً تصدر عشرات الدراسات التي تتعلق بالسعودية وأميركا وإيران وأزمات المنطقة، وهذه حروب فكرية تواجه بحروبٍ مثلها وليس بهاشتاقات أو وسوم عابرة.
قبل أيام كتب الصديق الأستاذ مشاري الذايدي مقالة في الصميم، شرحت بعض الأزمة وجرحت بعض المغتبطين الذين يظنون أن الفعل السريع يمكنه أن يقاوم معركة الأفكار والدراسات التي تؤسس للسياسات وتدعمها. أذكّر ببعض ما قاله الأستاذ مشاري في مقالته المعنونة بـ«بلاش تنظير علينا»، يقول «هناك قرابة 8160 مركز أبحاث في العالم، تستحوذ أوروبا على الجزء الأكبر منها، بواقع 2219، في حين يوجد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 507 مراكز فقط! وفي العالم العربي نسبة الإنفاق الحكومي على مراكز البحث بلغت 90.8 في المائة، في حين بلغت نسبة تمويل القطاع الخاص لتلك المراكز نحو 9.2 في المائة، بينما نسبة القطاع الخاص في اليابان، مثلاً، تبلغ 70 في المائة. لنقترب أكثر من جيران العرب المزعجين، ولن أتحدث عن المثال الإسرائيلي، فهو معلوم».
عبر التاريخ، فإن مراكز الفكر بمثابة قوة إنقاذ يلاذ بها في الأزمات الكبرى، نقرأ ذلك في كتابٍ مهم مشترك التأليف بين ستيفن بوشيه (المحاضر في معهد العلوم السياسية في باريس) والمقدم باسكال لامي (عمل مديراً عاماً لمنظمة التجارة العالمية) وعنوناه بـ«مراكز الفكر - أدمغة حرب الأفكار»، ومما نستخلصه من الكتاب هذه اللمحات:
* «أصل تسمية «مركز الفكر»: حتى الأربعينات لم تكن تسمية مركز فكر موجودة، فقد ظهرت أثناء الحرب العالمية الثانية، بدأوا إذن في الولايات المتحدة بتسميتها «علب الأدمغة» (Brain Boxes). في رطانة حرب تلك المرحلة مركز الفكر هو القاعة التي كان يجتمع فيها الاستراتيجيون لتحضير عملياتهم».
* «بعد الحرب العالمية الثانية انتشر مفهوم مركز الفكر بسرعة. هذه الموجة الثانية ولدت نتيجة إدراك النخب الأميركية ضرورة وضع نهاية للانعزالية التي قادت حتى الآن السياسة الخارجية لواشنطن والاضطلاع بمسؤوليات القوة العظمى التي آلت إليها بنهاية الحرب العالمية الثانية بحسب جامعيين إنجليزيين هما كاترين فيشي وجون غافني».
* «إن مراكز الفكر هي أقله نظرياً جسر بين أصحاب القرار والخبراء ووسائط الإعلام والجمهور الواسع. من المفروض أن يسمحوا بالذهاب والإياب بين التحليل السياسي والفعل السياسي، وفي التقاطع بين التفكير والعمل يفضل بعضها، مثل مجتمع لشبونة للتنافسية الاقتصادية الليبرالي جداً بتعبيرهم (فكّر واعمل كمركز) كيف يمكنهم تحقيق هذه الطموحات المتعددة. مراكز الفكر تفكر مثل كل الناس، ولكنها تساعد على إقامة الجسر بين مختلف أشكال المعرفة».
* من الملاحظات الحيوية جداً قول المؤلفين «نلاحظ تطوراً صاعقاً لمراكز الفكر في الشرق (شرق أوروبا) بعد سقوط حائط برلين. وانهيار الأنظمة الشيوعية استدعى مناخاً غير مسبوق لخلق منظمات قادرة على نصح الدول الانتقالية. فظهرت مراكز الفكر بسرعة لتكون البديل المرن والحديث لمراكز التحليل البيروقراطية للحقبة الشيوعية. رأت فيها المؤسسات الأميركية فرصة فريدة لتوسيع نفوذها، خاصة تلك التي تحفز السياسات الليبرالية، فكانت النتيجة أن ثلث المراكز الجديدة لبحث هذه التنظيمات تستعمل مفردات مثل «السوق الحرة» و«الإصلاح للمجتمع».
المعنى الأساسي لتلك اللمحات التاريخية، أن الحروب والسياسات هي نتاج أفكار لها جذورها الفلسفية العميقة. المواقف المتلاطمة من السعودية قائدة الاعتدال ليست بسبب قضية محددة، ولا بما يتعلق بحقوق الإنسان كما يبدو من الخطاب الأميركي الجديد، بل هذه المفاهيم والأفكار أدوات لإدارة الصراع ولترتيب العلاقة ولمحو سجل محدد من سجلات الإدارة السابقة في زمن ترمب.
لو تأملنا حضور مفردة «القيم» في الخطاب السياسي الأميركي الحالي لدى مختلف الناطقين والسياسيين، لوجدناها تحضر بكثافة عند الحديث عن السعودية تحديداً، ولكنها تغيب حين يتعلق الأمر بإيران التي تقتل الإيرانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين في كل مكان، إن مفردة «القيم» المدورة حالياً في الخطاب السياسي الأميركي نتاج ضخ مكثف عبر مراكز الأفكار ورزم الدراسات وأطنان من المقالات والتعليقات.
مر عقد وأكثر من ثورة السوشيال ميديا وسحرها، جرت مياه كثيرة، وانتعشت لفترة خطاباتٍ تمجد الجهل وتحتقر العلم والبحث والدرس والاطلاع. الأدوات السوشيالية هي أدوات دردشة وليست مصادر معرفة؛ لذا فإن ما شهده العالم من أزمات كفيل بتقوية دور مراكز الأفكار والبحث والمعارف. حتى السياسات لها جذرها النظري عبر التاريخ، الحروب متترسة دائماً بمفاهيم، والنزاعات تقوى حين تتسلح بالأفكار، هنا مربط الفرس؛ لذلك كتب مشاري الذايدي «نحتاج إذن إلى (التنظير) الحقيقي لخدمة الرؤية العربية السياسية والحضارية، خصوصاً الرؤية السعودية، لخلق (نظرية) حولها، تحميها من الاستهداف الخارجي والتسطيح الداخلي».
في آخر المطاف، فإن ما نتابعه من خطاباتٍ ومواقف سياسية دولية هو ذروة تشكل الفكرة. قبل الخطاب والتوجه والمشروع انغمست أدمغة عديدة على صناعة «الفكرة». بعد أن انفضّ سامر السوشيال آن أوان الحرب الحقيقية، «حرب الأفكار».
9:8 دقيقة
TT
مع الذايدي في «حروب الأفكار»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة