هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

أسلحة السياسة الخارجية الصينية

يجمع اندفاع الصين للسيطرة بين الطموحات الأبدية وأساليب القرن الحادي والعشرين الحديثة. ولا يتجاوز الأمر أبعد من سعي الحكومة الصينية الحثيث لحيازة المزيد من مجالات السيطرة والنفوذ. وعلى غرار عدد لا يُحصى من القوى العظمى السابقة، تهدف الصين راهناً إلى صياغة مجالها المحيط والسيطرة عليه. كما أنها تطمح إلى خلق مجالات جيوسياسية تهدف إلى حماية مصالحها ورعاية صلاحياتها.
ومع ذلك، فإن الصين تواصل فعل ذلك، جزئياً، من خلال منهج العصر الرقمي للتنافسات الاستراتيجية، ذلك النهج الذي يُجبر منافسيها على إعادة النظر والتفكير في حقيقة مجالات النفوذ الصينية وأمثل السبل لمواجهتها.
ويشير اصطلاح «مجال النفوذ» إلى تلك المنطقة التي يمكن للدولة الكبيرة فيها ممارسة السلطات فيها على الجهات الفاعلة الصغرى مع إبعاد منافسيها من القوى الكبرى الأخرى. ومنذ الأزمنة القديمة، سعت القوى الطموحة إلى حيازة النفوذ والسيطرة خدمة لأربعة أغراض أساسية؛ الحماية (على اعتبارها حائلاً استراتيجياً في وجه المنافسين)، وإظهار القوة (تلك القاعدة الآمنة التي تنطلق منها لممارسة النفوذ العالمي)، والربح (كوسيلة لاستخراج الموارد، والوصول إلى الأسواق، وتسخير الاقتصادات الأصغر لخدمة المصالح الخاصة)، والمكانة (أي رمزية الهيبة والوضعية في مواجهة القوى الأقل والأكبر على حد سواء).
ومع ذلك، فلقد اختلفت السمات المميزة لمجالات النفوذ والسيطرة مع مرور الزمن.
إبان القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، حظيت بريطانيا العظمى بما يُطلق عليه الإمبراطورية غير الرسمية في قارة أميركا الجنوبية، حيث كانت تواصل ممارسة النفوذ في المقام الأول من خلال التفوق المالي، ثم التهديد العابر للآفاق استناداً إلى قوتها البحرية الملكية الهائلة. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بسط الاتحاد السوفياتي هيمنته على أوروبا الشرقية بقبضة حديدية ثقيلة. ومن ثم تمخض الأمر عن إعادة تشكيل تلك الحكومات على غرار الصورة الشيوعية، في حين استخدمت مناهج الدولة البوليسية وقوات الجيش الأحمر السوفياتي في فرض الانضباط الجيوسياسي وفق الرؤية الشيوعية على البلدان الواقعة في المدار السوفياتي آنذاك.
وإثر نهاية الحرب الباردة، بدا أن مجالات النفوذ قد تلاشت من الآفاق؛ نظراً لوجود قوة عظمى وحيدة فقط – الولايات المتحدة – التي كانت مصممة على حرمان أي قوة أخرى من حيازة مثل هذه الامتيازات.
كان جوزيف بايدن – نائب الرئيس الأميركي آنذاك – قد أعلن في عام 2009 قائلاً «إننا لن نعترف بأي دولة تملك مجالاً من مجالات النفوذ». ومع ذلك، ومن الواضح، أن للحكومة الصينية أفكاراً أخرى؛ إذ يتميز مشروعها الجيوسياسي ببعض الأساليب التي ربما يجدها بعض من طلاب العلوم السياسية من تنافسات القوى السابقة، في حين يعتبرها البعض الآخر أكثر حداثة.
تهدف الصين، في منطقة شرق آسيا وغيرها من الأماكن الأخرى حول محيطها المباشر، إلى حيازة مجال نفوذ تقليدي إلى درجة ما. ولقد أوجدت لأجل ذلك جملة من العلاقات التجارية والاستثمارية التي يُقصد منها جعل اقتصادات تلك المنطقة أكثر دوراناً وتمحوراً حول بكين، وأكثر تعرضاً لأساليب الإكراه الاقتصادي الناشئ عن الصين. وتستعين الحكومة الصينية بقوتها العسكرية المتنامية في ممارسة الضغط على تايوان، وربما محاولة غزوها في نهاية المطاف، بُغية الضغط على مطالبها الموسعة في بحر الصين الجنوبي، ولإجبار بقية البلدان في كافة أنحاء المحيطين الهندي والهادي على التفكر والاعتبار قبل إثارة غضب القيادة في بكين.
من خلال تخفيف العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها، يُقصد من هذه الإجراءات إخراج واشنطن من تلك المنطقة تماماً كما قامت واشنطن بإبعاد منافسيها الأوروبيين من منطقة البحر الكاريبي من قبل. كما تستخدم الصين حملات التأثير السياسي على نحو متزايد، مع المساعدات الموجهة إلى المسؤولين الفاسدين، وغير ذلك من أشكال التدخل الهادئة من أجل تحويل سياسات المنطقة لصالحها. وربما ينكر المسؤولون العسكريون الصينيون، أن الدولة تسعى إلى حيازة أي مجال من مجالات النفوذ على الإطلاق. وفي واقع الأمر، تسلك الحكومة الصينية طريقاً قد سلكها أسلافها من القوى العظمى سابقاً.
ومع ذلك، تحاول بكين جلب لعبة مجالات النفوذ السياسية إلى القرن الحادي والعشرين، وذلك من خلال البحث عن مجال نفوذ أكبر تحدد أطره التكنولوجيا أكثر من الجغرافيا.
ولنتصور بعض الطرق التي تبني بها الحكومة الصينية العلاقات التقنية التي من شأنها الربط بين البلدان عبر أوراسيا وخارجها: تواصل الشركات الصينية بناء كابلات الألياف البصرية ومراكز البيانات الكبيرة التي تمثل العمود الفقري الحقيقي للإنترنت، فضلاً عن مشروع طريق الحرير الرقمي الذي يضع شركات التكنولوجيا الصينية في صميم شبكات الاتصالات المتقدمة في أرجاء العالم النامي كافة، مع انتشار عالمي النطاق لتقنيات المراقبة الصينية، وظهور العملات الرقمية الصينية المنشأ والتي تهدف لأن تتحول إلى وسيلة التبادل الوحيدة على طول مبادرة الحزام والطريق الصيني المعروف.
هذا هو مجال النفوذ التقني الناشئ في الصين، الذي يهدف بالأساس إلى توفير النفوذ الجيوسياسي عبر المركزية التكنولوجية عوضاً عن الهيمنة المادية.
إذا كانت حدود مجال النفوذ التقني تتسم بالاتساع والتطور المستمر، فإن الآثار الاستراتيجية الناجمة عنه سوف تكون بالغة الأهمية؛ إذ ينجم عن إنشاء البنية التحتية الرقمية – من قبل شركات صينية معروفة مثل شركة «هواوي» أو شركة «زد تي إي» الملتزمة بموجب القانون التعاون المستمر مع الحزب الشيوعي الصيني الحاكم – آثار اقتصادية هائلة وإمكانات تجسسية كبيرة. كما أن توفير معدات المراقبة العالية التقنية سوف يؤدي إلى ربط بكين بصورة وثيقة بالحكام المستبدين الذين تساعدهم الحكومة الصينية في المحافظة على السلطة في بلادهم.
من شأن المساعدة في إنشاء أسواق جديدة للتكنولوجيا الصينية، ومصادر جديدة للبيانات لتغذية اللوغاريتمات الخاصة بها، أن يسهم في تعزيز الابتكارات في مجال الذكاء الصناعي وغيره من المجالات الأخرى. كما من شأن النفوذ التقني الصيني المتنامي أن يساعد على اصطفاف الدول الصديقة، والاعتمادية بعبارة أخرى، وراء الحكومة الصينية في مواجهة قضايا حوكمة الإنترنت إلى زعامة المنظمات الدولية الرئيسية.
يفترض بعض الخبراء المعنيين بأن شبكة الإنترنت في حد ذاتها سوف تتحول بصورة متزايدة إلى أحد مجالات النفوذ الصيني الجديدة. ويتوقع خبراء آخرون أن ينقسم العالم المعاصر إلى كتل وكانتونات تكنولوجية متنافسة، تلك التي تذكرنا بحالة الانقسام الرهيبة بين الشرق والغرب إبان حقبة الحرب الباردة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»